سأخبرك بشئ على سبيل الكلام العابر، لو قلته بين الحديث لما توقفتي عنده لحظة. لكنني سأقوله الآن، حيث يملأ فضاء الصمت كل الذي بيننا من كواكب. نجمة حياتي البعيدة، تتباعد، تنشر العجز في مفاصل مخلوق ضئيل، لكن نورها أبداً لا يختفي. الشئ هو أنني أحياناً أخاف من كلامي، من كتابتي. أتخذ حذري كلما ولجت مدونتي بحثاً عن نص ما. رتبت احتياطاتي قبل ذلك بكثير، ونظمت كل شئ في مكانه، لئلا أقابل في طريق بحثي ما لا أستعد لرؤيته. ستقع هذه الرسالة حتماً في ثقبي الأسود، سأتناساها وأنساها، لكني سأحتفظ بها هنا، في خبرتي، دمي وجلدي، بثور وجهي التي لا أستطيع إصلاحها، ولا أريد، وسأحتفظ بحقي في التعبير عن وطأة ثقيلة لا أتحمل تجاهلها يوماً بعد يوم.
في مثل هذه الأيام، اعترفت لي صديقة بإعجابها، وكانت أيام عيد الحب، وعندما لم أستطع الاستجابة لذلك، اعتبرت صديقتي العزيزة ذلك إهانة، وأنا أتحسس جيداً من جرح أحد - لا تضحكي من ذلك بعد إذنك، فسوف آتي إليكِ بعد قليل -. ذهبت إلى صديقتي تلك في اليوم التالي على الفور، حتى أتمكن من شرح أمري لها. أخبرتها أنني خرجت من تجربة ثقيلة جداً على قلبي، ضغطته حتى اتخذ شكلها، وسأحتاج إلى خمسة أعوام للتعافي. أعطيت لنفسي استحقاق تطبيب قلبي وأعجبني ذلك، واعتقدت أنني أملك من الوعي والنضج ما يكفي لإتاحة الفرصة والوقت الكافيين كي تعود الأشياء داخلي إلى ترتيبها الصحيح، فأمتلك القدرة بعد ذلك على الأخذ والعطاء، وكان ذلك قمة الصدق والعدل في رأيي، ولا يزال.
الذي لا يعجبني في هذه القصة، أن الأعوام تمر، والجرح لا يندمل. وأنا لم أكتب ذلك بالسهولة التي تقرأينها بها الآن. لأن هذه الكلمات، مهما استنطقنا البلاغة كي تُقربها، لن تقترب مما يدور في الداخل. لا أكتب الآن، لأحيي الموتى ولا لأبرئ الأكمه والأبرص، فأنا كبير بما يكفي لأعلم حقائق الأشياء ومواضعها. وإنما أكتب، يا عزيزتي، إنصافاً لنفسي المهدورة. رسالتي التي قطعت بها كل جميل بيننا، هي من الأشياء التي أحظر على عيني رؤيتها، من الوقت الذي أرسلتها فيه. كل هذه الكلمات التي بدت لك حقداً وكراهية، إنما كانت دفاعاً عن الحب، الذي دُفن حياً، ولم يموت.
كل شئ في العالم يبدو خاملاً، بلا معنى. ما معنى النضال لحياة الناس إذا كانت حياتنا حطاماً؟ وما معنى الكلام إن لم يغنِ عن الواقع شيئاً؟ إنما نزين إدراكنا بأوهام جميلة، نغمي بها أعيننا عن بؤس الواقع وفشل الأيام. لا أعلم إذا كان الذي اخترقني منذ أيام حلماً جميلاً أم كابوساً مريعاً، ألحق بي الحزن حتى نسيت الأكل والشرب والعمل. لماذا نفعل ذلك بأنفسنا؟ ولماذا - برأيك - لا ننسى ما نريد أن ننساه؟ كنتي اختبار، أصعب اختبار دخلته، وأظنني لم أخرج بعد. هل تعلمين ما الغريب حقاً؟ أنني لو عاد بي الزمن أعوام كثيرة، سأكرر نفس أخطائي، بحذافيرها، وسأسير في نفس الطرقات، وأجلس في نفس المجالس، وأتأكد من ذلك كل يوم، حتى يأتي يوم لقائك مجدداً. عود صديقي الأبدي لم يكن بلاغة لفظية، إنما هو حقيقة قلوبنا الحزينة، القلوب التي آمنت بالأمل فكفر بها، فتوحدت مع ذواتها حتى صارت دراويش صغيرة لإله لم يتجلى إلا في الداخل، بحثت في كل الأشياء حتى وجدته في كل الأشياء، صارت مثل الشجر والحجر والتراث، يعلم الجميع بوجودها، لكن لا يهتم بها أحد.
تبادلنا الاعتذار والتسامح مرة على كل شئ. لكن احياناً يباغتني كل شئ من جديد، يسألني عن كل وعد بغدٍ أفضل لم يتحقق، وكل ميلاد للحظة فارقة، أبداً لم تكون.
في هذا اليوم، ولد العالم الذي أعرفه، وفي هذا اليوم ولدت. وفي كل يوم، يتحطم العالم فوق رأسي، وفي كل يوم أموت.
فسامحوني على طفولتي المتأخرة، وسامحوني على شيخوختي المبكرة، وسامحوني على عجزي الدائم، وسامحوني على ثغري الباسم.
