الخميس، 2 أبريل 2020

كيف استبدلنا السماء بسقف الغرفة؟ (3) : أين أيني الآن؟ (مصفوفات مكانية)

الصورة من أحد الفصول المدرسية وقد تحول إلى بيتنا المؤقت، أثناء تأمين التصويت على التعديلات الدستورية الأخيرة، في أحد مدارس قنا بصعيد مصر، تصوير: محمد عبده رشدي. 20 أبريل 2019. (هذه الغرفة تتناص مع غرفة مكتب الوحدة في سيناء، هي وغرفة الشاليه البحري في أحد قرى فايد، ومحال أخرى على أرض مصر، تمدد عليها جسد الجندي المقاتل دونها)

لا أعتقد أنني سأنسى الثلاثة أيام التي قضيتها بصحبة صديقي يوسف في غرفة منزلي منتصف مارس، لأن هذه الأيام بالذات، مثلت علامة دخول الوباء إلى حياتنا العامة، وتأثيره المباشر في حياتنا اليومية. جاء يوسف من الإسكندرية بعد قبوله في أحد الشركات الدولية بمصر الجديدة، واستضفته عدة أيام حتى يتسنى له البحث عن سكن له بالقرب من عمله. في اليوم الأول أخبرني بأنه لن يعمل اليوم التالي، لأنهم نقلوه إلى مشروع آخر، وأن عليه الانتظار يومين آخرين. في اليوم الثاني استيقظنا متأخرين، ودفعتنا بطوننا لننزل الشارع بحثًا عن إفطار ومقهى. أكلنا في الشبراوي، وضعنا السندويتشات حول مخلل الرجل الذي سبقنا، وتلذذنا بإشباع الجوع، ثم ذهبنا للبحث عن مقهى. صدمتنا أشكال المقاهي المغلقة، حتى وجدنا واحدة، ثم ذهبنا لشراء بعض الأشياء وعدنا إلى المنزل. في اليوم الثالث استيقظنا متأخرين أيضاً، وكلما فتحنا أعيننا نمنا مجدداً، كان ينهض ليجلس على السرير المقابل، ليخبرني بشئ، ثم ينام مرة أخرى. ظللنا في هذا التقلب العشوائي حتى جاء عصر اليوم، فشعرت أجسادنا بالخجل من فرط الكسل. قبل الغداء شربنا شاي في الشرفة، وأخبرته عن مقالاتي وحياتي، وبعد الغداء استمر في الإلحاح، يريد أن يلعب بلايستيشن. كنت أرى أن النزول من البيت هو حاجز لا يمكن تخطيه بغير قدر معين من الجدوى، لكن مع زن يوسف عليك في غرفة واحدة، لم يعد هناك مفر من النزول. نزلنا لنبحث مجدداً عن محل بلايستيشن لا يزال يعمل وسط هذا العبث. قادتنا أقدامنا حتى وصلنا، وانتشى يوسف بإحساسه الذي قاده إلى المكان. لعبنا الكرة والمصارعة، وشعرت بأنفاسي تعود إلي من جديد عندما أخبرنا الرجل بانتهاء الساعة. يضحك يوسف طوال اليوم لأنه يدرك مللي من كل شئ. في طريقنا وجدنا قهوة الذوق، جلسنا عليها وشربنا الشاي والينسون، واستمعنا إلى الرجال حولنا يحكون الأساطير حول الوباء الجديد. ضحكنا من قصصهم ومضينا للمنزل مرة أخرى. اتصل يوسف بزملائه، ليخبروه أن موعد العمل سيتأجل ليوم الاثنين. في هذه الأثناء كانت الأحاديث تبدأ حول ضرورة إلغاء المدارس وقرارات الحكومة بعدما شهد العالم كيف يمكن لفيروس متسلل أن يقلق أمم كاملة، قريبة. استأذنني يوسف في العودة إلى الإسكندرية، فهو لا يعلم ما الذي سوف يحدث. الأموال تتناقص وهو يريد العودة قبل إغلاق الطرق. لا يعلم إلام سينتهي تأجيل ذهابه إلى العمل. سافر يوسف في قطار الخامسة، وبعد ذلك اتصلت لأطمئن على سير أموره وموعد عودته، ليخبرني أن كل شئ توقف.

أيام يوسف القليلة، حفزت لدي إحساس جديد تجاه الغرفة. في الأيام العادية، يتوزع وجودي في المنزل على معظم مساحاته، ويتوزع وقتي في اليوم بين المنزل والشارع، بمختلف تمثيلاته، وكذلك لا يرتبط وجودي بمنزل الأهل دائماً. تجربة غرفتنا الصغيرة، كانت فريدة بكسلها ومللها، وبانتظارنا للعالم خارج الغرفة أن يعود لسابق عهده، أو أن يتغير التغيير الذي ننتظره من قرون. هذه الغرفة تجعلني أفكر في المكان كمجال للجسد، يمكن اختياره بين العديد من الأماكن المسموح التواجد فيها، وهي قد تكون كثيرة في الأيام العادية، أو أكثر بقليل. لكن في ظروف استثنائية تحيط بالفرد، قد تسقط عن المكان صفته الاختيارية، فيصبح مجرد مجال محيط. هذه الغرفة التي تزينها الأسرّة وتنفتح على شرفة إلى السماء، هي جزء من منزل. وفي المنزل، تتوافر وسائل الراحة الشخصية من طعام وشراب وحمام نظيف وأجهزة متصلة بشبكة الإنترنت وكتب وغير ذلك. مع كل هذه الأشياء، ومع وجودنا معاً كأصدقاء، أصابت أجسادنا الإعياء من طول مكوثنا، الذي لم يطول حقيقةً. هذه التجربة جعلتني أفكر في سكان السجون وعلاقاتهم الممتدة والطويلة، مع أماكن اختارتهم ولم يختاروها. لا أريد الإسهاب في وصف حالة هذه الأماكن التي يمكن للكثيرين تخيلها، لكنني أقول هنا أن إحساسنا بالأشياء التي حولنا فتح لنا أبواب جديدة لاختبار المعرفة. الحرية لعمر حنفي أينما حل، وبُعداً للقوم الظالمين.

العلاقة بمكان واحد قد تجسدها تجربة الخدمة العسكرية التي قضيتها خلال عامي المنقضي. كنت أربي إحساساً بالضيق كلما عبرت نفق الشهيد أحمد حمدي متجهاً إلى وحدتي، وإحساس آخر بالخلاص كلما عبرت في الاتجاه الآخر. كنت أردد في سري آية لا أذكر أنني نسيت ترديدها مرة واحدة، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. هذه الآية رددها النبي يونس في بطن الحوت، وهذه الآية التي أخرجته من محنته المظلمة. الحوت الذي كان يبتلعني تحت مياه قناة السويس، لم يكن مظلماً دائماً. كجندي، نشأت علاقة معقدة بيني وبين الوحدة، كنت أخشى دائماً أن وجودي في مكان حساس قد يجلب إلي المتاعب. وكان تثاقل الأيام هو الهم الأكبر. كانت أجازاتنا القصيرة بين الشهور الطويلة هو انعتاقنا الوحيد، لذلك فقد كان المكان على اتساعه ضيقاً لأرواحنا. كانت طاقة السعادة الوحيدة هي المحبة التي نمت وأثمرت في نفوسنا. محبة أصدقائنا من الجنود. ومحبة عدد أقل لبعض الضباط وضباط الصف الذين التفتوا لإمكانية أننا ولدنا بشر قبل أن نصبح جنود. هذه الإمكانية يعمى أو يتعامى عنها الكثير، لكن سيظل من الظلم ألا معترف بأرواح جميلة التقينا بها في رحلة صعبة، رغم كل شئ.

من المكتب إلى الغرفة بدأت رحلتنا. بكل تقلباتها وغرابتها. بكل السباب والمزاح والمعارك والخشية الدائمة من السجن. بعد كل ذلك اكتشفنا أنفسنا، وكانت “الأوضة” هي السجن الذي اخترناه. هذا المكان الضيق الذي لا يكفي ثلاثة، كان يمكن أن يفترشه سبعة أشخاص، فهو يعتبر أكثر أماكن الفوج أمناً، بعيداً عن صفافير الطوابير وحروب السرايا. كانت غرفتنا جميلة، نقوم على ترتيبها، ونظيفة، نتأكد من طرد حشراتها، ومتطورة، دخلتها تقنيات العصر الحديث، من الموبايل أبو زراير، إلى الآيفون واللابتوب. كانت فوقنا مظلات متعددة تحمينا من بطش الجميع. مظلة علاقتنا الموصولة بالضباط والقادة داخل وخارج الوحدة، ومظلة الشرطة العسكرية، التي تستطيع توقيف من تهتز له الشنبات - وقد شهدت ذلك بنفسي - وتستطيع إطلاق سراحه بمكالمة واحدة. هذه الغرفة التي لم نأسف على شئ بقدر تركنا لها أثناء خروجنا الأخير، وقد علمنا أننا لن نجتمع هنا مجدداً أبداً. وعلمنا بعد خروجنا أنها تحولت لمكتب ما، أي أن صفتها كغرفة ارتبطت بوجودنا فيها.

رغم كل ذلك، ورغم تحررنا الذكي - مع زيادة إدراك الجميع لأهميتنا خصوصاً بعد ظهور الجيل الثالث من عساكر المكتب - كان سجننا الأكبر هو سجن الزمن. انتقلت القيود من مكان محاصر لا نحب دخوله، إلى إحساس جدلي بزمن قد تشتري مروره بأي ثمن، ولا تستطيع الفكاك. أربعة عشر شهراً تحسبهم باليوم. وكلما اقتربت المسافة ذكرنا أنفسنا أننا هناك، على حافة الحرية. كنا نحسب جيشنا بداية من 360 يوم، مع إهمال فترة مركز التدريب التي أخذت من أرواحنا أيضاً. ثم يبدأ الانجلاء التدريجي مع انتصاف المدة، لتصبح عندها عسكري قديم، يتبقى 180 يوماً على رتبته الأعلى، ليعود مدنياً لا يأمره أحد. ومع كل ثلاثين يوم، يعود التذكير، ثم يتناقص ليصبح العد بعشرات الأيام، لكن كلما اقتربنا كلما تباطأ الزمن، كأننا لن نخرج أبداً. لكننا خرجنا يا أحمد محمدي، خرجنا يا ابراهيم ماهر، خرجنا يا أحمد عصام، خرجنا يا اسلام مختار، خرجنا يا مصطفى كوبتري، خرجنا يا ليثي ويا هشام، خرجنا يا صبري، يا خالد، يا رشدي، يا صباغ، يا أحمد عبدالله، يا منير، يا عمر يا كشك، يا كل رفاق الأيام الطويلة الثقيلة، الآن عادت لنا خفة الحياة. وإلى عبدالباري أيضاً، الحياة تنتظرك يا صديق، فلا تبتئس، وأخبر كل زملائنا أننا نحبهم. السلام موصول للرائد ابراهيم والمقدم محمد والرائد محمد عماد والضابط أحمد والضابط عمرو والضابط صلاح والضابط محمود فريد وللصول إسلام والصول خيري والصول سعد والصول ابراهيم والصول عماد والصول وليد وكل الطيبين من أبناء المؤسسة، ممن ذكرتهم ومن لم أستطيع حصرهم، جنود وضباط صف وضباط، شكراً على كل شئ.

نعود إلى الإحساس بالزمن. كيف نشعر بالزمن عندما تقل حركتنا؟ يثبت ألبرت أينشتاين أنه كلما ازدادت سرعتنا يتباطأ مرور الزمن في ساعاتنا، وكلما أبطأنا تسارع الزمن. أي أنه إذا مكث أحدهم سنة في صاروخ يتحرك بسرعة كبيرة في الفضاء، سيعود ليجد أخيه التوأم قد سبقه في العمر بعدة سنوات، رغم أنهم التقوا مجدداً ولم يزالوا موجودين. فالوقت الذي مر على الأخ الذي انتظر في الأرض، أطول من الوقت الذي مر على أخيه السريع. هذا ما يمكننا الشعور به بمقارنة أيامنا قبل الحجر وبعده. مكوثنا في المنازل، سحب من أجسادنا طاقة كبيرة كنا نحملها قاطعين الشوارع والمدن وربما البلاد. هذه الطاقة الساكنة تتحول إلى فراغ كبير يجذب كل ما يملأه.

في هذا الفراغ الممتد، تمتد أيدينا لنشاطات جديدة، استبدلنا بها إمكانيات متعددة. نزولنا الشارع ذاته كان إمكانية لامتلاك المكان، وإعادة توزيع مساحة كوكب الأرض لتختار قدمك مساحتها، ومزاحمة الناس والسيارات على طريقك الذي تختاره، ووقتك الذي لن تضيعه واقفاً. يقول الدكتور محمد صفار أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة في إحدى محاضراته، ما يعني أن اجتماعية الإنسان، واختياره الدائم للوجود في جماعة والتحرك في المجتمع، جعل الوسيلة الأنجع لعقابه هي حبسه، حيث تقام الحجب بينه وبين مجال وجوده الطبيعي. اكتشف إسحق نيوتن قانون الجذب العام، الذي يحكم العلاقة بين الأجسام في الكون، فمهما كانت كتلتنا صغيرة بالنسبة للكواكب والأقمار التي تشد بعضها بعضاً، فإن مسارات حركتنا اليومية، تؤسس وتهدم ملايين المجالات بيننا وبين أجسام مختلفة، ثابتة أو متحركة، جاعلة من من أجسادنا مركزاً حيوياً لمرور القوى. بوجودنا في المنزل تخفت هذه الحركة، فترتبط بأجسادنا بلازمات محدودة، ويبقى علينا أن نحرك الأشياء بعقولنا فقط.

في هذا الفراغ الصامت، نستطيع سماع أصوات قلوبنا بوضوح، كما استطعنا من قبل تكوين كل مشاعرنا قبل لحظة النوم. هذه الأيام هي لحظة نوم ممتدة، يضطرب فيها إحساسنا بوجود الناس حولنا. التعبير المجازي الذي كان يتحقق أحياناً أصبح الآن يستحيل، وكل ما علينا أن نفترض بقائهم، أو نختبره. اتصل بي في الأيام الماضية عدد من الناس، ممن لم أتحدث معهم لفترة طويلة. هذه الشجاعة لكسر حواجز الزمن، شجعتني لاستغلال الفرصة معهم، وإعادة وصل ما قطعته عجلة الحياة من حبال. هذا السعي سيختبر افتراضات نطمئن لها عن انشغال البعض وانشغالنا الدائم، وسيكشف ما نمى تحت حجب الظروف من خذل، لن يذيبه بذل.

هل الواقع الافتراضي مكان؟ وهل الحب عبر المسافات يعول عليه؟ يقول ابن عربي : كل حب يُعرف سببه فيكون من الأسباب التي تنقطع لا يعول عليه. أين يوجد من نحبهم؟ أتخيل الأماكن التي يسكنها أقرب الناس إلى قلوبنا، وموضعي المكاني منها، وأتخيل الفضاء الممتلئ والفارغ بيننا، وأتخيل الموجات الكهرومغناطيسية التي تربط بيوتنا، وأتخيل كلماتنا وأصواتنا تعبر الهواء متفرقة لتجتمع هناك مرة أخرى. أتخيل كل شئ لأن معرفتي بالعالم - في هذه اللحظة - في مكان ما بين رأسي. يدّعي أفلاطون أن عالمنا الذي نلمسه لم يكن حقيقي أبداً، ولكنه انعكاس للعالم وللحقيقة، كانعكاس الظلال في كهف تشتعل في وسطه النار. وسعى اليوناني القديم لتخيل هذا العالم، من خلال اكتشافه. لكنه لم يكتشفه كما اكتشف كولومبوس أمريكا، بل اكتشفه عندما تذكر المعرفة، التي ينساها البشر لحظة ميلادهم. تذكر أفلاطون مدينة يحكمها الفيلسوف، فيقسم الناس حسب معادنهم، ويسلك كل معدن في برنامج تعليمي مكثف، يمتد لباقي العمر. هل نعتبر مدينة أفلاطون مكان؟ أم هو مستوى من مستويات العالم، التي لا تنفتح إلا لمن يطيلون التأمل؟

عندما أطلقوا النار على كلية الهندسة من الخارج وأغلقوا علينا الأبواب وقتلوا محمد، انغلقت أفهامنا، وانغلقت الدنيا في أعيننا. وظللت لفترة طويلة أرى الباب مغلقاً، كسجن يتعذب من بداخله ويموت، في مشهد يتكرر إلى الأبد. أردت الخروج من الباب والنظر إليه يتباعد خلف ظهري. عبرت الناحية الأخرى وولجت أبواب الجامعة، لكنهم حاصروني من جديد بكل مدرعاتهم. أدركت في أحد الأيام، بينما أقف أمام كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن السجن لم يكن على الناحية الأخرى من الطريق، وأن السجن لم يكن في هذه الناحية، وأن السجن حولنا من كل النواحي، وهربت إلى حمام الكلية لأبكي. بشرنا الطلاب بوجود يعاكس الوجود المادي، عندما أطلقنا جملتنا الخالدة ومضينا كل في طريقه : أديروا ظهوركم للأسوار واسقوا الأزهار فالشوك لا ينمو في أرضنا. اعتبرت دائماً أنني أستطيع تجاوز الواقع، لكنني أدركت في أحد المراحل أن الواقع هو من تجاوزني، وأخذت وقتاً طويلاً لأبتلع الحقيقة. كانت تجربة الخروج من هندسة تجربة متجاوزة للمكان باعتباره سجن، كانت تتجاوزه إلى اللحظة والعمر باعتباره إمكانية وحيدة لتغيير قد يتحقق. لكن الصدمة الأخيرة أنه قد لا يتحقق أيضاً. فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. فهل نفعنا أحد؟

لفترة طويلة، اعتبر الإنسان أنه مركز الكون، حتى جاء القرن الخامس عشر بكوبرنيكوس، ليقيم ثورة جديدة في الأفهام، تبدل الأرض من كونها مركز دوران الأفلاك، إلى كونها تدور حول الشمس مع الكواكب. سمحت هذه النظرية للإنسان أن يدرك حجم الكون الذي يسبح فيه، وحجمه وتأثيره الحقيقي بالتبعية. علاقة الإنسان بمن حوله وما حوله، ترتب أشياء كثيرة في حياته وحياتهم، فهي علاقة شبه مكانية، إذا اعتبر فيها ذاته مركزاً، دار الناس والأشياء حوله، وإذا اكتفى بالدوران في فلكه، دار مع الآخرين حول المركز. يدور الدراويش الصوفيون حول مركزهم الأوحد كما تدور الكواكب. ويدير بعض الحاكمين الدنيا حولهم، فتقيم الحدود على البلاد والعباد بألسنتهم، ويصبحون إذا قالوا للشئ كن فيكون.

لفترة وجيزة، اعتقد الناس في جمهورية مصر أنهم استعادوا حقهم في المركز. ظل ميدان التحرير مركزاً للأحداث لأسابيع وشهور طويلة. وبعدما أصبح أيقونة للثورة التي تسقط الأنظمة، يرى الباحث عاطف سعيد فيه صنماً محطماً، وديستوبيا تستدعي للمخيلة الجماعية الأمل المهزوم والحلم المحاصر. قبل ذلك بقليل، سعى بعض المنتفعين من النظام للتعامل مع ميدان التحرير كأرض معادية، يحتشد بها الجواسيس والخونة والأجانب. هذه الصورة جعلت اقتحام الميدان يتطلب جيشاً من الفرسان راكبي الجمال والخيل، وجعلت الدفاع عنه يتطلب ترتيب الصفوف والدفاع المستميت عن الأرض. نشأت دولة التحرير في خيال الواقفين عليها، وامتد خيالهم ليلامس شعوب أوسع، أرادت أن تمسك بأطراف مصيرها الهائم، وتوجه دفة الصباح مع رياح الربيع. يناقش الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس تحولات فكرة المجال العام في أوروبا، وكيف انتقل من كونه أداة برجوازية لإسقاط الملكية الفرنسية وإعلان الحرية والإخاء والمساواة، إلى أن أصبح أداة في يد رأسمالية الشركات المتحكمة في وسائل الإعلام، فتتحول الصحافة من مجال لنقاش قرارات السلطة ومساءلتها، إلى خدعة يتحكم فيها أصحاب المصالح المتقاطعة مع السلطة، ويتواطأ معها الناس. بعدما انفتح مجالنا العام ليحتمل أفكارنا عن طريقنا الذي سنبنيه كلما سرنا فيه، تحول أفقنا إلى حائط، ورسمنا إلى لوحة حزينة، معلقة داخل صناديق مغلقة، كلما فتحناها بكينا. بكاءنا ظل تجسيداً لبراءة تصديقنا في اقتراب السراب، لكننا اتقينا شر الحليم ولم نأمن مكر الفتاح العليم.

في مدار كلامنا عن العلاقات المكانية، أثار حوار مع صديقة فكرة السلطة والجسد، وكيف أن تلاشي كثافة الجسد المادي في المدن، سيطرح إمكانية تغيير الترتيب العالمي للسلطة وأهرامها. يعلق الباحث والصديق هشام فهمي على تدوينتي الأولى في هذا الحبل، قائلاً "أظن اللي بيتكلم عنه المقال هي مرحلة مهمة في تطور المجتمعات الحديثة، لكن المرحلة دي (مرحلة النظام وتنظيم الجسد) دخلت في طور جديد أكثر سيولة (وهنا أهمية مشروع زي باومن أو بيونج تشول هان). المهم هنا، إن ثنائية المادة/الفكر كلها على بعضها مش موجودة عند فوكوه وكتير غيره. وبالتالي ثنائية الجسد/الفكرة مش موجودة برضو. الأفكار دي هي أساليب حياة أو أساليب وجود للأجساد، فمافيش الفصلة دي ولا فصلة النظرية/التطبيق. ممكن تقرا كتابات فوكوه الأخيرة، زي History of sexuality, the abnormal, Technologies of the self... Etc. دول كمان فيهم اضاءات أوسع واكثر نضجاً من المراقبة والعقاب، لكن اقراه أكيد لأنهم مهم جداً".

تتحكم في وجودنا الجسدي، وهو أوضح تمثيل لوجودنا، كل إنتاجات البيئة حولنا. البيئة بدورها، يتحكم فيها من يمتلك قوة التغيير المادي. الحديث الحالم عن بيئة صحية إنما هو إفصاح عن الجهة التي ينبغي على الحضارة الإنسانية أن تتجه صوبها. إنسان اليوم محكوم بحضارة حديثة تتقاسمها سلطات اكتسبت القدرة على اتخاذ القرار في مناطق حددتها دساتير دول العالم. هذه السلطات تشترك بشكل جماعي في التأثير في الطبيعة والتأثر بها. لكنها تختلف وتتناقض من حيث علاقاتها الجدلية بالجماهير، من سلطات ديمقراطية، تراعي الرأي العام في تحديد السياسات وتوزيع الموارد بشكل يجعل من الدولة منظومة متشابكة يوجد فيها الرئيس كما يوجد المواطن العادي، وسلطات ديكتاتورية، تهبط فيها القرارات من عقل الحاكم، وتُفرض قسراً على حيوات كل ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. وبين النموذجين، يتراقص الكثير. وتحتهم جميعاً تتنفس الجماهير، إذا كان مسموحاً لها أن تتنفس.

حقنا في ترتيب أولوياتنا في التعامل مع الطبيعة، هو فرع من حقنا في ترتيب أولويات حياتنا. ومصادرة الأخير، تستتبع فقد الأول بالضرورة. سنتحضر للأخضر في الوقت الذي نملك فيه إمكانية التحضير، التي تتناقض مع حقيقة أن كل الأفعال التي يتم إطلاقها في المجال العام، هي من إنتاج مركز سلطوي واحد. مركز يستخدم أدواته الدعائية باستمرار لإقناع الناس بقدرات سلبهم إياها منذ زمن، مثل قدرتهم على اختيار مستقبلهم السياسي، المشاركة في تغيير أوضاع الفقر-الجهل-المرض في الهوامش، أو قدرتهم على تبني السياسات الخضراء في حياتهم. يدأب هذا المركز على تكثيف دعواته، في الوقت الذي يبني فيه كل الأسوار اللازمة لمنع الناس من الحركة ومن رؤية الأفق ومن استنشاق الهواء النظيف. الأشجار تُزال لتتسع حواري السيارات، والكباري والإنشاءات تُشيد فتمنع رؤية البحر والسماء، فعن أي أخضر تتحدثون؟ عندما حاول آدم انتزاع الثمرة من شجرة الخلد والملك الذي لا يبلى، تم انتزاعه ونسله جميعاً من الجنة. ظل الخلود حلماً أخروياً وظل الملك الدائم سراب دائم. ورغم ذلك، يظن بعض حكام الأرض أنهم ملكوها، حتى يواريهم ثراها. معركة الإنسان الأول مع الشجرة الأولى ممتدة، يتوارثها كل إنسان يريد بسط يده على الطبيعة، وفي كل مرة يخسر وتنتصر.

سنتحرر من أوهام الواقع عندما نفتح في دواخلنا بوابات خلفية لتسريب خيال سياسي جديد. خيال قادر على تجاوز ترتيبات القوة القائمة كلها، إلى مندوحة التفكير في حياتنا كما نريدها، ومواردنا المسلوبة كأننا استعدناها، وحرياتنا وحقوقنا كما لو لم نفقدها لحظة. وقتها فقط، سنتمكن من إدارة نقاش مجتمعي يكون هدفه حل قضايانا على أساس جدلي وعلمي وأخلاقي وحر. سنواظب على تذكير أنفسنا بأننا فقط من نملك حق مناقشة مستقبلنا وترتيبات حياتنا طوال الوقت، وأن الوضع الذي تظل فيه معرفة مصائرنا وأسباب مشاكلنا ومحاولة حلها مُصادَرة هو وضع استثنائي حتمته ظروف تاريخية ممتدة، آن أوان استبدالها. لنفكر في عالمنا القابع وراء هذه الأوضاع الشائهة، ولنقفز فوق حدود أبصارهم فنكشف عنا غطاؤنا، فتتمدد آفاقنا كما يتمدد الكون، ولا تضيق أنفسنا كلما ضاقت علينا الأرض بما رحبت. أو كما قال الشاعر العربي القديم: لعَمرِكَ ما ضاقت بلادٌ بأهلِها .. ولَكِنَّ أحلامَ الرجالِ تضيق.

لم يكن الضيق في الأماكن، لكنه كان في محيطنا المتشابك. علينا إذا أردنا فك تشابكات قيودنا، أن نتأمل القيود، وأن نضع الشروط التي على أساسها سيتشكل عالمنا الجديد، بعلم جديد، نطوره كجماعة واعية يشترك أفرادها في نقطة واحدة على إحداثيات التاريخ والجغرافيا. هذا العلم هو علمنا بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا كبشر، وككائنات عاقلة، وككائنات. علمنا بماضينا سيتيح لنا مراكمة خبرات التجارب والأخطاء، والتعلم منها والبناء عليها. وعلمنا بحاضرنا سيفتح مجالات النظر لمشكلاتنا وتفكيكها بالنجاة من فخاخ الاعتياد وتجاوز أكاذيب استحالة التغيير. التغيير إنما يبدأ من التفكير. وعلمنا بمستقبلنا يبدأ من هنا، من تفكيرنا في كل الأسئلة التي علينا طرحها للاستمرار في إدعائنا الدائم بالتقدم والتطور. علينا كمجتمع، أن ننهض ببشريتنا تجاه أنفسنا أولا، إذا أردنا الاتساق مع رغباتنا السينمائية في عالم جميل. عالمنا الجميل، هو عالم يمارس الناس فيه التفكير كواجب يومي، في كيف يعيش الآخرون، وكيف ينبغي أن يعيش الجميع معا في عالم واحد، وقبل أن نتأكد من إحكام غلق خزانات المال في مراكز الاقتصاد، لنتأكد من إطعام الأفواه الجائعة في كل مكان، ومن إتاحة فرص التعليم والتعافي والتطور والعمل والإبداع والمشاركة للجميع، من أجل مجال إنساني متزن، يكون فيه احترام حقوق الإنسان وحرياته، مقدمة لاحترام البيئة وعناصرها.

الطعام كان مفهوم مركزي لدى مؤلف الفيلم الإسباني "The Platform"، إذ أسس فكرته على بناء طبقات من الغرف بعضها فوق بعض، كل غرفة يحبس فيها فردين، وكل غرفة فوقها غرفة وتحتها غرفة، حيث تُنتج كمية هائلة من الطعام بأعلى جودة، لتكفي الحاجة الغذائية لكل سكان البنيان المتطاول، لكن المشكلة الوحيدة في هذا النظام، أن الطعام ينزل في قدر ضخم مرة واحدة في اليوم، من أعلى إلى أسفل. المشكلة التي يضعها أمامنا المؤلف، أن كلما نزل القدر درجة، تناقص الطعام درجات، وحيثما يأكل ساكنو الأدوار العليا بشراهة، تبدأ محتويات الأطباق في التلاشي تماماً عند دور معين، إلى عدد غير معلوم من الأدوار. يحاول بطل الفيلم الذي قاده حظه النهائي للصحو في دور علوي، أن يهبط مع القدر، ويوزع الطعام لكل ساكن حسب حاجته فقط، فيتأكد بذلك أن الجميع سيأكلون، لكن الذي يحدث، أنه كلما هبط تناقص الطعام، وكلما هبط تناقص السكان، لأنهم يبدأوا في أكل بعضهم البعض، بشكل حرفي. توزيع الموارد كان دائماً هو المشكلة في صورتها الأولية. الطبقة المحدودة التي تأكل وتخزن كل شئ، تحرم الملايين من مقومات أساسية للحياة كقوت اليوم ومياه الشرب، وهذه هي القضية. يقول فؤاد حداد "والكدب أخضر فى الزمان القديم / كل التاريخ مكتوب بحبر أليم / وعشان نقول أمثال ونضربها / لابد من مقتول يجربها / يا حسرة العجبه فى إيد اليتيم / المصرى هو الشاعر القايل / الناس بتاكل بعض مش واكل".

البيئة كانت دائماً ملجأنا للخروج من الضغط إلى التمدد. الأماكن التي اعتدنا الذهاب إليها لم تعد مفتوحة. المقهى كان مثالاً لمجال عام بسيط يشترك أعضاؤه في تأمل هشاشة المتسارعين في الطرق. تخرج الأدخنة الرائقة كسباب خفي من أفواه مخدرة، يلعن عصر السرعة والسباق والتنافس الدائم. نتخيل الأماكن الآن كما كنا نتخيل أحباءنا، لكن باختلاف أن الأماكن ستوحش من دون أصحابها، ربما استعمرت المقهى المفتوح مجموعة من القطط، وربما استعمر خيالي الافتراض. حديثي عن المكان ذكرني بصندوق شرودنجر الغامض، وقطته التي لا يعلم أحد مصيرها، لكنه يكتشف بسببها أن كل الاحتمالات تحتفظ بوجودها بالقوة، قبل أن يختار الزمن وجودها بالفعل. لذلك ستظل نبوءاتنا لانهائية، وممكنة كذلك، كما كان الحاضر العجيب ممكناً وقتما اطمأن قلبك لمستقبل الماضي. العالم لا يسير في اتجاه، وعلينا أن ندرك ذلك، حتى قبل قرائتنا لكتاب نظرية الفوضى لمؤرخ العلوم جيمس غليك.

هل الجنة مكان؟ في المسلسل الأمريكي “The Good Place” يتعرض المؤلف لفكرة الجنة، وهي الفكرة التي لا ترتبط بالديانة، بقدر ما ترتبط بأفعال الخير/الشر التي اقترفها البشر طوال حياتهم الدنيوية، وتقوم بحساب درجات هذه الأفعال حسب نظام رقمي دقيق - هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها - يقوم بتوزيع الناس حسب درجاتهم بين المكان الجيد والمكان السئ. في أحد حلقات المسلسل، وبسبب وجود خطأ في حسابات النظام الدقيقة، نشأت حفرة في أحد الأماكن، هذه الحفرة ظلت تتسع مع الأيام حتى باتت تهدد الحي بأكمله، فاتخذ مهندس الحي قراراً بمكوث جميع نزلاء الحي بالمنزل، أو بالأماكن المغلقة التي تظلهم الآن، لحين إيجاد حل لغلق هذه الحفرة. الوضع الذي يمكن أن يتقبله البعض لمدة قصيرة، يجيب المهندس بتراوح احتمالية بقائه مؤقتاً بين ساعة وأحد عشر شهراً. فهل ستغرقنا أوضاع عدم التأكد في متاهة زمنية مماثلة؟

منذ امتنع والدي عن الكلام والتواجد في المنزل، وأنا أفكر في مكانه. مكان الكيان الذي كان جالساً في الغرفة هناك. هي انتهى إلى القبر؟ أم صعد إلى السماء؟ وأين يوجد ذلك الذي ذهب إليه؟ لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم الحديد. فأينما كنت يا أبي، هذه رسالة ربما ستحملها الملائكة، بالسلام لروحك إلى الأبد.

في هذا السرد المكاني، لا أزال أبحث عن مكان الشاعر. ألم ترى أنهم في كل وادٍ يهيمون؟ فهل يصنع الشعراء عوالمهم ليهيموا فيها؟ وليغووا الناس بما لم يوجد؟ ما الفرق بين وديان الشعراء وجمهورية أفلاطون وأين درويش؟ إنما حياتنا استعارة كبيرة، وعالمنا لحظة يضيؤها الخلق ويُمررها الفناء. وإليكم اختياري بعد تفكير طويل: أنا هيثم شومان .. سأفنى كما أحب!