كان القمر بدراً حين دار الحديث واستطال .. اتكأ رسولي ونظر للسماء وقال :
تلك السماء ترى نصف الأرض واؤلئك الناس في بلاد هذا النصف يرونها .. ولكنهم يرونها وحدها .. هي تكشف عالمنا .. من حيث ابتدأ .. وإلام انتهى .. رأيتها كلما ذهبت هذه الرحلة أو تلك .. عجباً لرب الأرض والسموات الحُلك .. صاحب المُلك ..
.. طار الرسول وأمعن في الشرود .. وأكمل : سبحان من رفع السماء بلا عمود .. يأخذني منظر القمر من كل الأماكن .. وتسحرني تلك المصابيح المُعلقة في الفضاء الداكن .. يا لها من حكمة لا نعرف سرّها .. كلما نظرت تأملت .. وكلما تأملت تذكرت كل ما ألم بي تحتها كأنه يتكرر .. وها أنا أتذكر ..
كنت إذا أردتُ أن أُرسل رسالتك إلى السُلطان .. ذهبت إلى تلك الأرض المفقودة من الأرض .. في منتصف الدنيا إذا أشرقت الشمس .. وفي أول العهد إذا بدأ الزمن .. وفي آخر الأفق إذا أرسلت الشعرى النور .. وفي كل السطور .. حتى إذا ظهر المريخ بين النجوم .. ارتقت الرسالة إلى الطريق المعلوم .. بين لُبّي الأحجية .. وعابري الأودية .. وقاصدي الطريق .. ومُعرفي الصديق .. على سطور من نسج الخيال .. وأحبار من لمع اللآل .. وساكني بيوت التجّلي .. ورابطي خيوط التدلي .. من فوق السماء .. إلى النهاية ثواء .. وطفت بعدها في صحراء ممتدة .. منطفئة مسوّدة .. يملؤها العبث إذا اتخذ قناع النظام .. كالجسد إذا تنافرت العظام .. مشوب .. مسكوب .. معتل .. محتل .. رأيت العجائب حتى ظننت اننى مُت وبعثت في عالم آخر .. تضئ يوماً وتنطفئ أيام .. اشتهر رجالها بالكلام .. تنحّى التاريخ من كونه مرتبط .. وكل شئ هنا مختلط .. بلاد العسكر والعسس .. والطهر والدنس .. والشعوب التي تطيع الأمر .. والساسة الذين يبيعون الأمر .. والثروات والأموال .. والذين يعلقون الآمال .. على الوعود الكاذبة .. واللافتات الجاذبة .. لأعين الفقراء .. وابتسامة الأمراء .. والأبراج الشاهقة .. والمخيمات العالقة .. بين الحدود الدولية .. ومستمدي الشرعية .. من المواثيق الكاذبة .. والأيادي المتكالبة .. على أخذ الحقوق .. وتفاصيل الشقوق .. بين الوجوه الكثيرة .. على ظهر الجزيرة ..
ثم أكملت مسيري عابساً بين الصحراوات والحقول .. فّإذا بجماعة قد اتخذت مجلساً وبينهم الراوي يقول :
فأما المتكلم فقد تطغى حالته على آيات التأثير .. وفي هذا كلامٌ كثير .. فربما قذف الله في قلبه نسمات الأمل .. فانطلق يرسله بين الجمل .. يُحيل الدنيا حاضراً برّاق .. ويطمح في عبور الآفاق .. على غير تعقُلٍ معقول .. وهذا غير مقبول .. وربما كان المتكلم قد التزم اليأس الصريح .. فراح كالطائر الجريح .. يقطر ماءً على كل ما يعبر .. يسارع إلى ذكر السيئات ولا يصبر .. يملأ الدنيا سواداً من عينيه .. وهذا أيضاً يؤخذ عليه .. وربما كان المتكلم محباً حملته الأشواق .. فانطلق كالريح من قلب العراق .. حتى بلغ آخر العالم في لمح البصر .. وهذا واسع الخيال ممتد النظر .. لا يؤخذ في شئ إلا المعاكسة .. ولعلها من دروب المؤانسة .. وربما ألمت به أمراض الكره في النفس .. فانطلق كلامه كالصداع في الرأس .. لا يستساغ كأنه العلقم .. أعانه الله ما يسقم .. فقد بلغ منه الكره مداه .. حتى صرح بما في قلبه لمن عاداه .. تصريحاً قصده نقل الشر إلى المكروه .. فما يفعل هذا إلا يعتزله الناس ويمقتوه .. لما في قلبه من سواد .. انصفوا ينصفكم رب العباد .. ويهبكم ما في شؤون الدنيا من سر ..
فقمت وقد علمت أنني بين نارين .. نار الإنصاف .. ونار اليأس الذي ملأ العين .. ووقعت في البئر !
ما أن دلفت قدمي أوله .. حتى بلغت عمقه .. وفي هذه اللحظة عشت سنيناً من العجائب والأهوال .. لا يكفي وصفها في الأقوال .. قد علمت ما قصد الراوي في وصفه سابقاً .. فأما البئر .. تظنه عالقاً في وسط الصحراء .. حتى اذا اقتربت وتحققت لونه الذهبي .. وما كُتب على جدرانه من التراث العربي .. حتى غبت عن الإدراك .. وتناقلتك الآفاق .. إلى عوالم مجهولة .. سحيقة في التذكر .. عميقة في التصور .. بليغة إذ تتحدث .. فوضوية إذ تعبث .. وفي الفوضى فلسلفة .. وفي الفلسفة شرود .. ونارٌ لا يستنكرها خمود .. فهي متقدة منذ فجر التاريخ الناقص .. وهو كالقدر الراقص .. فوق بقايا المعذبين .. وقضايا الدنيا والدين .. وحين بلغت آخره ظننته كذلك .. وما إن فتحت عيني حتى خاب ظني .. وانقلبت بطني .. فهمت بين طرقاته أبحث عما يبدد الجوع .. لم أجد إلا الأدب طريقاً للشبع .. ومررت بجماعة من الشعراء مرور الحثيث .. وجلست بينهم ودار الحديث :
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا
وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا
- ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
ودعى البكاء ... فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عين كاذبة فأنكر وادعى ! !
- إنّ الذي سمك السماءَ بنى لنـا
المجد للشيطان .. معبود الرياح
- بـيـتـاً دعـائـمُـهُ أعـــزُّ وأطـــولُ
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
- أحلامـنـا تــزنُ الجـبـالَ رزانــةً
من قال " لا " .. فلم يمت ,
- وتخـالـنـا جِـنّــا إذا مـــا نـجـهـلُ
من علّم الإنسان تمزيق العدم
- إنّ الـذي سمـك السمـاءَ بـنـى لـنـا
- عــزاً عــلاك فـمـا لــه مــن مَنـقَـلِ
معلّق أنا على مشانق الصباح
- إنّـي انصبَبْـتُ مـن السمـاء عليكـمُ
و جبهتي – بالموت – محنيّة
- حتى اختطفتك يـا فـرزدقُ مـن عـلِ
لأنّني لم أحنها .. حيّه !
أُغالِبُ فيكَ الشّوْقَ وَالشوْقُ أغلَبُ
- أيتها النبية المقدسة ..
وَأعجبُ من ذا الهجرِ وَالوَصْلُ أعجبُ
- لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..
إنى رأيتكما ... إنى سمعتكما
عيناك فى عينيه ... فى شفتيه
- فخرستُ .. وعميت .. وائتممتُ بالخصيان !
- ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان
- طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .
- وها أنا في ساعة الطعانْ
- ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ
- أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
- أنا الذي لا حولَ لي أو شأن ..
- أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،
- أدعى إلى الموت .. ولم أدع الى المجالسة !!
- تكلمي أيتها النبية المقدسة..
ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقى إليك ؟
ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفاً عليك ؟
- فها أنا على التراب سائلٌ دمي..
لم ينتهي هذا الحديث أبداً .. ولم يسمع أحدٌ أحداً .. إنما يقولون ما يروق للسانهم ويتداخل فكرهم وكلامهم .. وها أنذا لا أفهم قط .. وتحمست قريحتي فانطلقت :
فلاحظني أحد الشعراء فأتى حيث أجلس وقال :
فتركت جماعة الشعراء وأكملت المسير .. وحملني الحظ فقابلت الوزير ! فقال :
فأما البئر فكما ترى .. قد ذبت في وصفه وتفسيره ولم تؤته حق .. وأما من طَرَق .. ببابه من البداية .. فربما خانته النهاية بالجزاء الوفاق .. وأما الرفاق .. فكما هم ذاتاً .. وليسوا كما هم ثباتاً .. بأعمدة التمسك والتودد .. وربما بالغ البئر في التمدد .. فلم يكن لهم ذنب في الأصل .. وهاهم يؤدون واجبات الوصل .. كلما سنحت الفرص .. وأما القصص .. فذات القاضي يتكلم .. قال بعدما سلّم :
سبحان الذي بسط الدنيا بعد ضيق .. وسبحان الذي مهد الطريق .. وسخر الأبصار في المدى .. ووفقنا الله فيمَ بدا ..
فأولهم هُنا أسمر تلتمس في وجهه خيراً .. يتأمل في الأحداث صبراً .. مثل ثانيهم تمام التمام .. في الهندسة وفي الكلام!
ثالثهم طيب إذا تكلم .. صامت إذا تألم .. قوي إذا فكر .. شرس إذا تنكر
رابعهم مستطيل الخيال ممدود .. طائر القلب مفقود .. رأى صاحبة الشعر المجعد في الحلم .. كتب في شيخوخته "الإيمان والعلم" !
خامسهم صارم القواعد كاسر .. بادئ الهجوم جاسر .. سريع الكلام دقيقه .. مولع بالسلاح رفيقه ..
سادسهم جاد لكن ظريف .. ثائر لكن طريف .. البسمة لا تفارق فمه .. الأمة تُبنى في دمه
سابعهم كثير الفكرة .. رفيق الثورة .. قليل الحديث .. كابوس البوليس
ثامنهم كثير السخرية .. رسومه مغرية .. شعوره ملتفّة .. يسألونه "لفّة؟!"
تاسعهم " لا تحلق ذقنك .. لا تغلق ثغرك " .. حاضرٌ بكل المحافل .. مرحاً وأحياناً.. سافل!
أما الآن فقد انتهيت .. تنتظرك الرمال في الصحراء .. وينتظرني الاسترخاء في البيت .. أحييك وأستودعك .. كان الله معك!
فوجدتُ نفسي في الصحراء مجدداً .. وها أنا يا سيدي مُجهداً .. استأذنك ولنكمل لاحقاً ..
فصعد الرسول الدرج مارقاً .. إلى حيث يخلد إلى النوم .. وأخلد إلى نفسي مُفكراً .. ثم إلى النوم مبكراً .. ثم إلى غياهب الذهاب .. لا أغلق الله في وجهنا باب .. ولا أطاحت بنا أمور .. ولا أبعدتنا شهور .. عن مؤانسة القوم !