الاثنين، 13 نوفمبر 2017

هَش الدبان (1) : دخل ولم يعد



إنه يوم الثلاثاء 7 نوفمبر 2017. أفتح عيني لأتبين الحقائق الواحدة تلو الأخرى. والذبابة تقف فوق رأسي تفكر في شئٍ أجهله. أقاوم نومي الثقيل وأمد يدي إلى التابلت. الساعة 11 وأنا لازلت في سريري، تحت لحافي، والآخرون يصنعون مجداً في الشوارع، في قاعات الدرس، في المباني والشركات، وأنا أكتفي بمجدي الصغير: أهش ذبابتي وأنهض من السرير.

سأقابل الرفيق حسب موعدنا في الثالثة عصراً أمام مترو المعادي. وأنا اليوم أمامي لن أفعل فيه شئ - بعد أن فات موعد كل شئ يمكن فعله - سوى أن أفطر وأحضر نفسي ثم أذهب لرحلة المترو الطويلة طوعاً وأقنع نفسي أن الأمور على ما يرام فهناك وقتاً - على الأقل - لإصلاح ما قد ينكسر في الطريق الذي لا يرحم.

وصلت مبكراً - جداً. وصلت المعادي في الواحدة الربع ظهراً ولم أكن أعلم أنني سأصل مبكراً إلى ذلك الحد. قلت سأتمشى أو سأجلس في الأنحاء حتى يأتي الموعد. جلست ولم أجد ما افعله ولم تكن جلستي على الرصيف مريحة. أرسلت رسالة للرفيق بأنني وصلت وأنه يمكنه النزول إذا كان جاهزاً أو أنني سأنتظره على موعدنا. على الفور اتصل بي وأخبرني أنه سيأتي خلال نصف ساعة وأن أنتظره في بينوس أمام سوبر ماركت مترو. أغلقت الخط وراجعت المحفظة فتأكدت أن المال الذي بحوذتي قليل جداً ولا يزال في اليوم متسع. نظرت ورائي فوجت ماكينة صرف آلي في واجهة سوبر ماركت مترو تابعة لبنك HSBC. وذهبت لكي أسحب مبلغ يكفيني بقية اليوم. وعندما أدخلت البطاقة داخل الماكينة، وكتبت كلمة السر، اخترت السحب، أظلمت الشاشة.

ما الذي حدث؟ انتظرت بضع ثوانٍ لعل الشاشة تظلم لتأتيني بشئ ما مثلما يحدث أحياناً في جهاز الكمبيوتر. لكن الشاشة أظلمت. وفي الخلفية أظلم المحل كله. إذ انقطع النور - لأجل حظي - في هذه اللحظة بالذات. دخلت البطاقة ولم تخرج، وكيف تخرج والنور مقطوع؟ اختبرت غبائي على أزرار الآلة برهة ثم وجدت رقم خدمة العملاء إذا واجهتني أي مشاكل. اتصلت فأجابتني الرسالة الصوتية بأن أدخل رقم الحساب. فأغلقت الخط. ثم دخلت للعاملين في المحل أخبرهم بما حدث دون جدوى. أخبرني أحدهم أن أخبر مدير الفرع. ومدير الفرع هناك يتحدث في تليفون طويل. عاد النور. واختفى مدير الفرع. دخلت الفرع وبحثت عنه بنفسي فلم أجده. دلني عليه أحد العاملين في مخبأ غريب وراء البضائع. انتظرت المكالمة الطويلة وأنا أفكر في الوقت الذي يمر والرفيق على وصول والبطاقة التي دخلت الآلة اللعينة على بعد عشرة أمتار ولن أستطيع استرجاعها. وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُف الطالب والمطلوب.

أخبرني بأن لا يملك من أمر هذه الآلة شئ. وحتى إن وجد مندوب البنك صاحب مفتاحها لن يستطيع تسليمي بطاقتي. فلن أستلمها إلا من البنك نفسه. خرجت خائب الرجا وذهبت لأنتظر في بينوس. انتظرت قليلاً ثم جاء الرفيق الذي لم أره منذ 2014. جلسنا وتحدثنا ملياً عن أحوالنا وأحوال الرفاق والأصدقاء وعن آليات التغيير واستراتيجية التنظيم والمعركة الجديدة التي ينتظرها العالم بين يمين جديد ويسار جديد وعن كل من لا يواكب العصر فيتجمد ويخرج من الصيرورة التاريخية. تحدثنا عن الماضي والمستقبل، عن رأس المال والفلسفة، عن أن القادم يحتمل دائماً المحاولة. وذبابة عنيدة لم تتركنا، كلما هشّها أحدنا ذهبت للآخر أو عادت إليه.

كنت سعيداً بهذا اللقاء جداً. لم يعطل سعادتي سوى الفكرة التي في رأسي عن الكارت الذي لا أعلم كيف سأحصل عليه مجدداً. وعن المال الذي في جيبي لا أعلم متى سينفد. لكني عدت إلى المنزل على أي حال. دخلت على صفحة البنك على موقع فيسبوك فلم أجد زر الرسائل. فذهبت لصفحته على موقع تويتر وعلمت أن خدمة العملاء على تويتر لها مواعيد نهارية كذلك. كان الليل قد انتصف عندما تركت لها - وهي فتاة - رسالة بما حدث.

استيقظت يوم الأربعاء وفتحت الموقع فوجدت ردها بأن أراسل البنك الذي أتبعه. بحثت على الإنترنت فوجدت رقم آخر لخدمة عملاء HSBC تابع لفرع لا أتذكره ولا أتذكر سبب اختياره، لكنني استطعت أخيراً التحدث إلى أحدهم بعد انتظار وانتقال على الخط، وأخبرتها بما حدث، فأخبرتني أن الكارت سيكون موجوداً في فرع المساحة خلال 7 أيام عمل، وكان يوم الأربعاء، وقد استبعدت أن يكون البنك حدّث محتويات الآلة يومها، وكان الغد الخميس، ولم أكن لأنزل من بيتي وأترك المذاكرة لامتحان السبت، فعقدت العزم على أن أذهب الأحد، فصبرٌ جميل والله المستعان عما تصفون.

انقضى الأربعاء، فالخميس، فالجمعة، فالسبت; بأحداثهم ومقابلاتهم وإحراجاتهم جميعاً. ثم أتى اليوم المختار. يوم الانتصار. أنهيت امتحاني بنجاح وجريت لميدان المساحة. كان المدخل ضيقاً وأمامه مدخل إلكتروني آخر وأمام المدخل مباشرةً سلم وبجانب السلم ينكمش عامل الأمن أمام مكتبه المواجه لزجاج الشارع المتاخم لمؤخرة ماكينة الصرف الآلي. نعم، كان الموقف غريباً لكنني كنت أنظر نحو هدفي. أخبرت عامل الأمن بقصة الكارت المسحوب من بنك آخر فسألني عن الاسم واليوم والساعة والمكان وكنت أحفظهم عن ظهر قلب. اتصل بأستاذ محمد وطلب مني الانتظار. انتظرت في المسافة بين المكتب والزجاج. نعم، لقد انتظرت في هذه المسافة، وأفسحت مجالاً كي يخرج النازل ويدخل الصاعد كلما انفتح الباب. ثم نزل أستاذ محمد وأخبرني بأن هذه البطاقة بلا اسم، فاقترحت عليه أن يعود للكاميرا حتى يتبين أنني صاحب الكارت ويتركنا وشأننا، فقال أريد إثباتاً بأنك صاحب الكارت، فقط يمكنك الذهاب للبنك الأهلي وطلب ورقة عليها بيانات هذه البطاقة لأطلع عليها ثم أسلمك بطاقتك. استجبت لطلبه وأخبرته بأنني سألحقه قبل الخامسة مساءاً موعد ذهابه. ثم قطعت الطريق من ميدان المساحة لميدان الدقي طلباً لورقتي الصغيرة وأموالي الضائعة بين براثن السيستم. دخلت وإذا بجحافل المنتظرين تشرق أمام ناظري كشمس أيلول.

ابتلعت رقمي الكبير وانتظرت واقفاً. انتظرت حتى اقترب رقمي شيئاً فشيئاً. فاقتربت وانتظرت مجدداً. إلى أن جاء دوري، سلمت على موظفة الاستقبال وأخبرتها بالقصة وبالمطلوب. أخبرتني بأن المطلوب غريب وهي لا تعلم كيف يمكن ذلك، ونصحتني بأن أتوجه لخدمة العملاء بالداخل لسؤالهم. دخلت وسألت الموظف الوحيد المتاح هل يمكنني أن أسئلك؟ فأخبرني بأن أسأل الأستاذ في مقدمة المكتب متخصص الاستفسارات السريعة. ذهبت عنده لكنني وجدته مشغول في ورقة أمامه. غير عميلين منتظرين على مكتبه، وآخرين منتظرين بجانبه. فأخذت بعضي وخرجت. وكنت واضعاً في محفظتي إيصال قديم لدفع مصاريف الكلية من خلال البنك، وجدته بعدما بحثت في محفظتي القديمة حتى اكتشفت أن كل المعلومات على الإيصالات القديمة قد أمحيت. ذهبت مجدداً وقد تغير الجالس على كرسي الأمن فبحثت عن الوجه المألوف وأشرتله وأخبرته أنني لم أستطع الوصول للورقة المطلوبة لكن معي وصل دفع من الكلية. فأخبرني بأنه لا ينفعه. فقلت له أن يفحص الكاميرا ويتأكد من هويتي ويريح كلاً منا! فأخبرني أنه يريد ذلك لكن لا يمكنه وأن الكاميرا ستثبت أنك أنت من حملت الكارت لكن لن تثبت أنك أنت صاحبه!

خرجت خائب الرجا مجدداً. مع وصولي المنزل أرسلت رسالة لصفحة البنك الأهلى على موقع فيسبوك وأخبرتهم بقصتي. قصتي الأثيرة التي صرت أطور فيها وأجملها وأحاول اختصار كلماتها وحل ثغراتها مرة بعد مرة. أتى الليل ولم يرد البنك، وقد عقدت العزم على السعي لاستخراج بطاقة بدل فاقد. على أن أذهب لفرع الجامعة في الغد الاثنين وإما أن أحكي مشكلتي فيستطيعون حلها وإما أن أفقد الأمل في البطاقة الموجودة وأستخرج أخرى بدلاً منها.

اليوم الاثنين 13 نوفمبر 2017. ذهبت للامتحان - الحكومة الإلكترونية (!) - وانتهيت وطلبت من المراقب الخروج وأخبرني بالانتظار 5 دقائق حتى ينتصف الوقت. أخبرتني حبيبة بأنه هناك ورقة في الخلف لم أراها. قلبت الورقة فانقض علي 20 سؤالاً كنت سأتركهم وأمضي. انتهيت وشكرت حبيبة - هذه الفتاة الجدعة التي لن ترَ مثلها - وخرجت. قابلني محمد هشام في الخارج فقلت له أنني رايح لفرع البنك أخلّص حاجة، فقالي يلّا. في الطريق أخبرته بما حدث فأخبرني أن أستخرج بدل فاقد لكن هذا المشوار الذي نفعله ليس له فائدة. توقفنا في منتصف الطريق فشرحلي كيف استخرج كارت بدل فاقد لأخته من الفرع الرئيسي في قصر النيل واستلمه بعد ثلاثة أيام، لكن يجب أن أحضر معي الورق الذي استلمت به البطاقة منذ البداية. ظللت أفكر في طريق رجوعنا للرفاق في الكلية كيف سأجد هذا الورق الذي لا أعلم أين وضعته عندما رتبت أوراقي وأشيائي الكثيرة ووضعتها في أماكن متعددة!

عُدت للمنزل في أقرب أتوبيس إذ لم أنتظر ثانية واحدة حتى وجدته فركبت. ووصلت شبرا قبل الساعة 11 وتذكرت أنني الآن ذهبت للجامعة وعدت لمنزلي بينما أجدني في أيام أخرى نائم لا رجاء في. لم أغسل وجهي وإنما اقتحمت غرفتي مباشرةً وفرغت شنطة فاثنين فثلاثة ولم أجد الورق. مددت يدي لكومة الورق "المهم" "الذي سأقرأه يوماً ما" على المكتب وهي بطول 11 كتاب موضوعين جانبها. قلّبت في الجزء الأول منه فلم أجد شئ ولكني استعدت ذكريات لطيفة للأيام التي كنت أنتقى فيها هذا الورق من بين الجرائد والمجلات وربما أقتص مقالات بعينها أو من أوراق المبادرات والأوصاف لكيانات متعددة وأوراق قانونية وعلمية ودراسية وكراسة رسم هجرتها منذ سنين ودلائل لمعارض وأحداث ثقافية وبيانات ثورية! خرجت من عالم الذكريات وجلبت الجزء الثاني (الأصغر) أمامي بأمل ضعيف، ثم وجدتها!

أوراق بطاقة الدفع مقدماً من البنك الأهلي. ها هي بين يدي. تنهدت وقمت لأرتب أشيائي بعدما بعثرتها ولأغسل يدي ووجهي وأجلس. جلست وسألت أكثر من صديقة عن كيفية وضع البيتزا في الفرن فأجابوني لكن أمي اتصلت بي وخافت عليّ من الحرق فوترتني فتناولت البيتزا باردة لكنني أكلت على أي حال ثم حضّرت نفسي للرحلة من جديد، المساحة وإن لم تكن فقصر النيل. ذهبت إلى فرع المساحة ووجت عامل أمن مختلف عن سابقيه فقلت له أن يقول لأستاذ محمد أنني هيثم بتاع البنك الأهلي. فاتصل بمحمد وقال استاذ محمد. فقلت له لأ استاذ هيثم. فأغلق الخط. فقلت له أنا أستاذ هيثم هو أستاذ محمد. فقال لي أنه فعل ذلك بالفعل! فاعتذرت وكلمه مجدداً فتعرّف أستاذ محمد على الموضوع ونُقلت إليه رسالتي بأن الورق جاهز. فبعث بأحدهم لكي يستلم الورق والبطاقة. وبعدها بمدة نزل أستاذ محمد وأخبرني بأن هذا لا يمكن أيضاً. قلت له لماذا وقد طلبت مني أن أجلب ما يثبت أنني "صاحب" الكارت. وهاك الظرف الذي استلمت به إياه! فقال لي أنه يعلم أنني صاحبه وكل حاجة بس كإجراءات مش هيقدر يسلمني الكارت. وأن الورقة المطلوبة يمكن استخراجها من البنك وهذا الموقف حدث معهم مرة بالفعل وتم حله بهذه الطريقة. قلت له سأحاول مجدداً.

قطعت الطريق من ميدان المساحة إلى ميدان الدقي ودخلت البنك الأهلي. لكنني تعلمت هذه المرة. فأخبرته أن لدي طلب في خدمة العملاء. فأخرج لي رقماً لخدمة العملاء عوضاً عن الاستقبال الذي لم يفيدني بشئ. دخلت ووجدت أمامي 72 رقماً. لحظة دخولي وجدت الكرسي الأول خالياً، بجانب الفتاة العشرينية وأمها، فجلست. بعدها بدقائق قامت الفتاة لتجلس بجانب أمها من الناحية الأخرى. المهم انتظرت وكنت أقتل الوقت بسماع الأغاني وتكرارها بملل. الموظفة أمامي كانت تمرر الأرقام بسرعة وكنت أتابعها بعيني، أشجعها على المضي قدماً حتى ترتاح وأرتاح. زميلتها الموظفة الرابعة دخلت في اللعبة وصارت تتبادل معها تمرير الأرقام حتى ينجزا العمل. فقد صارت الساعة الثالثة عصراً - موعد انتهاء العمل الرسمي. انفض الجمع وخفت الحركة واقترب الرقم من 2167 - رقمي. قامت الموظفة الرابعة لتسأل آخر بضعة عملاء جالسين عما يريدون حتى يتم إنجاز التعامل مع العملاء. جاء دوري وأخبرتها، استغربت الأمر طبعاً وجادلت وكنت قد تعلمت فن البقاء على حق فذهبت لتسأل أحد المديرين وأخبرها كيف يتم عمل هذه الورقة ثم طلب مني أن أنتظر رقمي. انتظرت رقمي لكن جاء صوت بعيد يسأل هل من أحد قبل 2170؟ لم أستطع تحديد مكان الصوت فتأخرت، فانبرى العميل المجاور وقال أنه 2168. فسألَت هل من أحد قبل 2168؟ فقلت 2167. واعتذرت لجاري وذهبت للمكتب.

مسّيت على الجالسة بالمكتب وكان اسمها "ندى حواش" وعلى الفتاة الجالسة بجانبها. شرحت لها الموقف والطلب. طلبت الأوراق ثم بحثوا قليلاً ثم طلبت البطاقة. بحثوا ثانياً ثم أخبرتني أنني سأستخرج بدل فاقد لكن عليّ أن أعلم أي فرع أتبع أولاً. أخبرتها أن بطاقتي موجودة بالفعل على بعد شوارع وأن عليّ فقط أن أذهب لأخذها وأنني أريد ورقة من البنك تثبت ملكيتي للبطاقة. أخبرتني أن المعلومات التي أمامها ليست كاملة لكي تفعل ذلك وأن الرقم ناقص. قلت لها أن هذا ما أريده وأن الأستاذ ذو الشعر البرتقالي قال بإمكانية ذلك - أين هو؟ (أشارت للمكتب بجانبها) فهممت بالقيام لسؤاله فقالت لا عليك سأتصل به. ثم تحدثوا على التليفون الداخلي وكنت أستطيع سماع المكالمة من الطرفين مباشرةً وكان الأمر جديداً وممتعاً. فكرا قليلاً ثم تدبرا الأمر وأغلقا الهاتف وعلمت قليلاً. في وقت انتظاري خطر لي هاجس فسألتهما هل هناك هنا في البنك أحد خريجي سياسة واقتصاد؟ فنظرا إليّ ملياً وقالوا تلاتة. انت في سياسة واقتصاد؟ فتعرفنا على بعض واكتشفت أنهما من دفعة 2015 و2016 وأن إنجي - الفتاة الأخرى - كانت تُشَبه عليّ كذلك لأن ياسمين الدروي عرفتنا على بعض في زمنٍ بعيد. ثم قامت ندى فتحدثت مع إنجي قليلاً عن الأصدقاء والعمل في البنك حتى عادت ندى وفي يدها الورقة المطلوبة التي سأمضيها فقط من المدير (نفسه الذي كان مزدحماً يوم الأحد). ثم مضيتها وأخبرتهما فسعادتي بلقائهما في هكذا صدفة سعيدة وانطلقت لأنهي معاناتي في ميدان المساحة!

في طريقي قرأت الورقة مجدداً وكانت بعنوان "حسابكم طرفنا" هكذا بالخط تحت العنوان ومن تحته المتن. وذكّرتني هذه اللغة بلغة البيانات الثورية. وضحكت لذلك، ثم مضيت في طريقي.

وصلت هناك لأجد - كالعادة - رجل أمن جديد فطلبت منه أن يتصل بأستاذ محمد وأنني هيثم أحضرت المطلوب، وكانت الساعة الرابعة إلا ربع والبنك شبه مغلق فانسللت من تحت البوابة ودخلت لأنتظر على السلم. انتظرت حتى أتى أحدهم ليصعد بالورقة والبطاقة. ثم انتظرت ليطلب مني الصعود بدوري للانتظار فوق. صعدت وكانت الكراسي متصلة ومتراصة أمام الأبواب. لم تريحني فكرة الجلوس أمام الأبواب فذهبت لأقف بجانب النافذة الزجاجية الكبيرة. انتظرت مستنداً ومتكئاً وواقفاً. انتظرت ماشياً وجالساً على الكراسي التي سأجربها بل أنني سأرغب في النوم عليها بمرور الوقت. انتظرت فسمعت أصوات عمال الأمن يلعبون الكرة في جهاز ما، وسمعت أحدهم يتحدث عن جيشه، نومه، يومه، زوجته. انتظرت حتى تابعت المارة والسيارات والعمارات وأعجبت بالسحب. انتظرت حتى اكتشفت مكان كاميرا المراقبة فوق رأسي من الخارج، وآلات الطباعة والخزنة الجديدة الملقاة في ركن المكان. انتظرت حتى ذهبت لأفجر الكرات الصغيرة المنفوخة حول أي شئ جديد في المكان. انتظرت حتى تابعت صاحبة الكشك بالأسفل التي لا تكف عن مضغ اللبان. والسيارة بداخلها امرأة حائرة بين ولدها الطفل وابنتها الوليدة. والفتاة التي اعتقدت أنها آية صديقتي القديمة لكنها خالفت اعتقادي. فارتددت لأجد من وراءها نهى مسؤولة الميديا في STP سابقاً وكدت أنتصر على آية لكن نهى هزمتني أيضاً. وصديق أصدقائي الذي كان يعمل في البصريات في نموذج منظمة المؤتمر الإسلامي. وأتوبيس مدرسة Child Home التي كنت طالباً فيها أول ما رأيت تعليم. انتظرت حتى رأيت حياتي تسير أمام عيني. انتظرت حتى انتهيت إلى نفسي واقفاً وإبراهيم أبو جازية وعمر غانم يمران من تحتي!

أذّن المغرب. وحديث النوم وتعب اليوم أوقد الفكرة في رأسي. والملل دفعني لفتح كتاب الأحلام الأخيرة لنجيب محفوظ. وظللت أقرأ الأحلام وأحلم بالنوم على الكرسي. أقرأ كأنما أحلم بدلاً من نجيب. أقرأ فأنام. أنام فأحلم. أقرأ فأحلم. ظهر أستاذ محمد من بعيد. ثم اختفى مجدداً. وأنا أفكر فيما يحدث بالداخل. وأفكر فيما سيحدث بالخارج. ماذا سأفعل بالكارت. كيف سأحتفل. لماذا تأخرت. متى سأذاكر. ما الذي أفعله هنا. 

خرج موظف غريب في النهاية. واعتذر لي على الانتظار معللاً أنهم كانوا يجب أن يتصلوا بالرجل الذي أمضى على الورقة في البنك الأهلي! وطلب مني الإمضاء على ورقة فيها صورة بطاقتي وكارتي. وأعطانيهما، وذهبت أخيراً والكارت في حوذتي! بعد أيام طالت بيأسي، وأحلام مالت برأسي، لكنني الآن منتبه...

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2017

معركة ثرموبيلي والموت انتصاراً للحياة


في حربنا التي نخوضها طوعاً انتصاراً لمبادئنا، إذا كان المنطق والمبدأ يسيران في خطان متعاكسان تماماً، هل نحارب؟ 

في فيلم "300" نجد القائد ومعه الـ300 شجاعا، يدافعون عن إسبرطة، مدينتهم الفاضلة، بعيداً في الصحراء، حين يلقون كل أنواع الشرور والمتاعب، وحدهم. يلتقون كل أنواع الجيوش القادمة من الشمال، ويمرون فوق جثث جميع من أقسموا على كسرهم، غير آبهين بالجيش الذي يسد الأفق بعيداً، القادم لهم من تحت ملك الفرس، الذي جاء ليكسر اليونان، ممثلة في جيش إسبرطة الصغير الذي لم تقهره معاركه، بنفسه هذه المرة. 

يقف رسول الملك الإله الفارسي، طالباً من القائد الإسبرطي التحرر من خوذته ومن درعه ومن رمحه، والسجود تبجيلاً لملك الفرس الملك الوحيد على هذه الأرض. الذي يستطيع أن يسحقه الآن إذا أراد، إلا أنه سوف يسامحه، ويجعله أميراً عن اليونان جميعاً، ويوفر له كل السلطة والمال الذي يريد، طالما أنه سيخضع للملك الفارسي. الفارسي الذي كان يطمع فيما أبعد من قتل القائد العنيد وجيشه، وهو كسر كبرياؤه الذي أعياه في معارك دامت لشهور بين الجبال والصحاري. 

نص المشهد الأخير من معركة ثرموبيلي كما وردت في فيلم 300 : 

- الرسول: ليونايدس، مديحي لك، مبروك عليك، لقد صنعت من النكبة انتصاراً. بالرغم من وقاحتك.. الإله الملك معجب بشجاعة الإسبرطيين ومهارتهم القتالية. ستكون حليفاً قوياً. 

- افيالتيس - الخائن الذي دل الفرس على موقع الإسبرطيون - : استسلم يا ليونايدس. كن عقلاني من أجل رجالك. أتوسل إليك. 

- الرسول: استمع لزميلك اليوناني. يمكنه أن يؤكد لك مدى كرم الإله الملك. بالرغم من إهانتك وكفرانك، الإله مستعد أن يسامحك ويكافئ خدمتك. تحارب من أجل بلادك.. احتفظ بها. تحارب من أجل إسبرطة.. ستصبح أغني وأقوى من أي وقت. تحارب من أجل مَلَكيَّتك.. ستكون حاكماً على كل اليونان، تحت إمرة السيد الحقيقي للعالم. ليونايدس، انتصارك سيكتمل. فقط، سلم أسلحتك، واركع للمقدس زيركسيس. 

- صوت الراوي: مر أكثر من ثلاثين عاما منذ حادثة الذئب والبرد القارص، والحال كما هو. ليس الخوف ما يسيطر عليه، بل إدراكه المتفوق بما يدور حوله. نسيم البحر يقبل صدره ورقبته يرطب عرقه. النوارس تنعق، تشتكي رغم آلاف الجثث العائمة البحر. النفس الثابت للثلاثمائة من خلفه.. مستعدون للموت دون لحظة تردد. كل واحد منهم مستعد للموت. 

خوذته ضيقة.. 

درعه ثقيل..

*يلقي ليونايدس خوذته ثم درعه* 

- الرسول: رمحك. 

- ليونايدس - مشيراً برمحه إلى الخائن - : أنت هناك.. افيالتيس، فلتعيش للأبد. 

- ليونايدس، رمحك. 

*يهم ليونايدس بالركوع لينهض زيركسيس رافعا رأسه فاتحا ذراعيه مستشعرا عظمته مستعدا للتمجيد بلا أي تحدي لسلطته* 

- ليونايدس - صارخا - : ستيليوس! 

*يخرج ستيليوس من القبة المدرعة ليطعن الرسول برمحه، فيفاجأ الفارسي ويتأهب الجيش*  

- زيركسيس - صارخا - : اذبحوهم! 

*ينهال الجيش ليقضي على الثلاثمئة بينما يحمل ليونايدس رمحه ويوجهه* 

- صوت الراوي: خوذته كانت ضيقة، تقصر من رؤيته.. يجب أن يرى بعيداً. درعه كان ثقيلاً، يخل من توازنه.. هدفه بعيد جداً.  

*يتحرك السهم ليتهادى ظله فوق سلم العرش والملك الفارسي يراقبه مذهولاً ليجرح جانب وجهه الأيمن ويستقر مخترقا العرش بينما ظل محدقا في الرجل الذي تحدى سلطته، واقترب من أن ينهي حياته* 

*يموت الرجال ولكل منهم عدد لا بأس به من القتلة، وهم في موتهم ذلك لا يكفوا عن قتل قاتليهم، عن الانتصار لدمائهم ولما ماتوا من أجله، لعدم الاستسلام حتى النَفَس الأخير* 

- صوت الراوي: القدماء يقولون أن الإسبرطيون انحدروا من نسل هرقل نفسه. شجاعة ليونايدس شهادة على ذلك. زئيره طويلاً وعالياً. 

*يزأر ليونايدس أمام الملك الذي فزع لجرح وجهه وقصد لإخفائه بيده لئلا تتآكل صورته. يلفظ الجنود باقي أنفاسهم قرب النهاية ويقترب ستيليوس من ليونايدس* 

ستيليوس: ملكي، شرف لي أن أموت بجانبك. 

ليونايدس: شرف لي أنني عشت بجانبك. 

*يغالب ليونايدس الألم لينهض مجدداً ويقف مستقبلاً آلاف الأسهم فاتحاً ذراعيه* ليونايدس: ملكتي.. زوجتي.. حبيبتي. 

***

في حربنا التي نخوضها طوعاً انتصاراً لمبادئنا، إذا كان كل من المنطق والمبدأ يسيران في خطان متعاكسان تماماً، هل نحارب؟ هذا هو السؤال الذي سيطرق رأسك مباشرة بينما تشاهد هذا المشهد. المشهد الذي يجعلك - بكل عناصره ومؤثراته - متعاطفاً تماماً مع البطل، متماهياً معه، متسائلاً ماذا لو كنت مكانه، في هذا الموقف بالذات، ماذا كنت لتختار؟ المبدأ الذي حاربت من أجله؟ الذي مات من ورائك مئات الشباب من أجله؟ ومن أجلك أنت الذي قدتهم لكل هذا الغمار؟ أن تموت وأنت لا تشك في ضميرك وفي حريتك وأخلاقك وعهدك أمام نفسك وأمام الناس - الميتين والأحياء؟ أم حياتك وحياة 300 صديق من ورائك، اتبعوك إلى هنا لأنهم صدقوا فيك، حياتك وحياتهم التي ستأتي من بعد كسر أنف الكبرياء الإسبرطي وخز عين الحرية اليونانية وكتم صوت كل ثرثرات الهتافات والمعاني؟ 

أيهما سيكون أدعى بالاختيار حينها؟ موت بثقة في شرف المصير وراحة الضمير؟ موت دفاع لن يسميها أحدهم قبل موته هزيمة؟ أم حياة استسلام ومهادنة؟ وهل كان على القائد أن يسمع لكل الأصوات التي نادت برجوعه عن هزيمته المؤكدة؟ بدءاً من رفاقه السباقين الذين لم يرتضوا انقلاب ميزان الواقع المفزع فوق رؤوسهم، إلى آخر يوناني خائن، وفارسي مغرور، دعاه لأن يعيد النظر إلى فرصة جديدة للحياة. هل كان يمكنه التفكير للحظة في المراوغة؟ وهل لم يأت ذلك في باله حقا؟ وإذا كان سيسلم رأسه وسلاحه للفرس فكيف يضمن ألّن يذلوه كما أرادوا له ولبلاده الذل والشين في عشرات المعارك؟ وهل لو صدقوا وعودهم بالسلطة والإمارة سيسطيع أن ينقلب على الفارسي في لحظة قوة وتدبير؟ 

في لحظة واحدة، كان على قائد الجيش الإسبرطي، ومن ورائه اليونان تنعم بحريتها ومدينتها السياسية، أن يقرر ماذا يختار، موت يحفظ حياته وحياة رفاقه صفحة بيضاء خالدة في تاريخ اليونان، مدافعين عن بلاد تأبى إلا أن تموت مرفوعة الرأس؟ أم حياة جديدة، لا تشبه سابقتها، كسيئة تمحي حسنات المعارك؟ سيئة التسليم من بعد كل هذا السجال، وكهدر لكل قطرة دم سالت من أجل قائد أخرج مفتاح مدينته من جيبه وأعطاه لهمجي يظن نفسه إلها ويريد جميع الناس عبيداً يركعون تحت قدمه، طلباً للعيش. فهل كانوا ليسامحوه. أم أنه لم يكن بداً من اعتباره ذكرى، من قبل حتى أن يُقتل، لأنه حتى إن عاد فلن يعود ملكهم الحر، سيكون مملوكهم على العبيد، وسيحيل إسبرطة ولاية فارسية مكبلة، ليس لها فكاك. 

يتحدث برتراند راسل عن الإسبرطيين في تاريخ الفلسفة الغربية فيقول : 

ولسنا ننكر أن الإسبرطيين قد نجحوا أمدا طويلا في غرضهم الرئيسي، وهو خلق فصيلة من المحاربين لا تجوز عليهم هزيمة في قتال؛ ولعل معركة "ثرموبيلي" (480 ق.م) أن تكون خير مثل لشجاعتهم على الرغم من أنها هزيمة من الوجهة الفنية؛ فثرموبيلي ممر ضيق بين الجبال، أريد لجيش الفرس أن يتجمع فيه؛ فصد ثلاثمائة إسبرطي مع توابعهم كل الهجمات الأمامية؛ وأخيراً كشف الفرس عن طريق أطول يمتد خلال التلال، ونجحوا في مهاجمة اليونان من الجانبين معاً؛ فقتل كل إسبرطي وهو في مكانه، إلا رجلين كانا غائبين في إجازة مرضية، لأنهما يشكوان من علة أعينهما تكاد تبلغ بهم حد العمى؛ فأصر أحدهما أن يحمله مملوكه إلى ميدان القتال، حيث لقى حتفه؛ أما الآخر - وهو أرستوديموس - فقد قرر أنه أضعف بالمرض من أن يقاتل، ولم يعد إلى القتال؛ فلما عاد إلى إسبرطة، لم يتحدث إليه إنسان، وأطلقوا عليه "أرستوديموس الجبان" لكنه بعد عام واحد، محا عن نفسه هذا العار بموته باسلاً في موقعة "بلاتي" التي انتصر فيها الإسبرطيون. 

وبعد الحرب أقام الإسبرطيون نصباً تذكارياً في مكان القتال في ثرموبيلي كتبوا عليه: "أيها القادم الغريب، أنبئ أهل "لاكيديمون" أننا نرقد هاهنا طاعة لأوامرهم".

***

الموت أم الحياة؟ هل واتتنا لحظات كتلك؟ لحظات كان علينا أن نختار فيها حياتنا وموتنا؟ فمنا من اختار قضيته وموته، ومنا من اختار مهادنته وحياته؟ هل علينا أن نفضل بين من اختاروا المبدأ لآخر لحظة، وبين من اختاروا المنطق لآخر لحظة؟ أم علينا احترام كل اختيار لصاحبه، وأن نسأل أنفسنا نحن، إن كان اختيارنا سهلاً، ولماذا، وماذا فعلنا قبله، وماذا نفعل بعده؟ 

سأحمل روحي على راحتي .. وألقي بها في مهاوي الردى 
فإما حياة تسر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدا

قائل هذه الأبيات هو الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم محمود، وذلك قبل استشهاده بقرابة عشر سنوات، في معركة الشجرة عام 1948. استهل بها قصيدته "الشهيد". وإذ ترك المحاربون الإسبرطيون رسالتهم على الأرض التي ماتوا فيها طائعين، واقفين، فكيف ترك الشهيد الفلسطيني رسالته؟ 

سأحمل روحي على راحتي .. وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق .. وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان .. ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن .. مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون .. ودوّى مقالي بين الورى
لعمرك إنّي أرى مصرعي .. ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مصرعي دون حقّي السليب .. ودون بلادي هو المبتغى
يلذّ لأذني سماع الصليل .. ويبهجُ نفسي مسيل الدما
وجسمٌ تجدّل في الصحصحان .. تناوشُهُ جارحاتُ الفلا
فمنه نصيبٌ لأسد السماء .. ومنه نصيبٌ لأسد الشّرى
كسا دمه الأرض بالأرجوان .. وأثقل بالعطر ريح الصّبا
وعفّر منه بهيّ الجبين .. ولكن عُفاراً يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسامٌ .. معانيه هزءٌ بهذي الدّنا
ونام ليحلم َ حلم الخلود .. ويهنأُ فيه بأحلى الرؤى
لعمرك هذا مماتُ الرجال .. ومن رام موتاً شريفاً فذا
فكيف اصطباري لكيد الحقود .. وكيف احتمالي لسوم الأذى
أخوفاً وعندي تهونُ الحياة .. وذُلاّ وإنّي لربّ الإبا
بقلبي سأرمي وجوه العداة .. فقلبي حديدٌ وناري لظى
وأحمي حياضي بحدّ الحسام .. فيعلم قومي أنّي الفتى.

وربما كانت هذه المقارنة الضمنية خارج صلب الموضوع، إلا أنني لم أجد بداً من الخضوع لهذا الشعور الذي جعلني أرى معركة الشجرة عام 1948 م ومعركة ممر ثرموبيلي عام 480 ق.م كانعاكسين لضوء واحد. وأقرأهما كنصّين لرسالة واحدة.

الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

"عند موتك برضو غني .. ناس عاشتها بالتمني .. يفرق ايه الموت معاهم"
- محمود بنداري

أربعاء جديد وأجواء متداخلة

ضربتني الآن قناعة غامضة بأن الشعر يستيقظ بعد انتصاف الليل. قناعة ربما سأهجرها لأعوام قادمة. حدث ذلك بينما كنت آكل الملاعق الأخيرة من طبق الكشري الذي لم أكمله في وقت الغذاء، وأسمع "قوم فسرلك كيف بعيش للوطن"، ولا أعلم من المتهم الرئيسي في ذلك: الأكل أم الليل أم حامد سنو؟ أشعر أنني بالأمس، وكذلك غداً.. لأن هذه اللحظة ستُستسخ عشرات المرات بطول خط الزمن ذهاباً ورجوعاً، ستكرر وكأني أقف بين مرآتين يمثلان الماضي والمستقبل، وكل منهما يأخذني معه بنفس الطريقة، وينقلني بنفس الوضع، بينما أقف مكاني - أندهش. سأجد بعد ذلك أنني أقف على سلم يصعد في اتجاه آخر، اتجاه مجهول، ربما يصعد إلى ممر سيفضي في دقيقة إلى حضانتي القديمة. سأدخل وأسلم على طنط سهير وأذوب من جديد في ماضي لم يعد يسعني، كأنني أتذكر قول محمود بنداري "يا صاحبي في المجمل .. لبس الحياة ضيق .. وانا لبس روحي تخين .. محتاج مقاس أوسع .. عمركش شفت حزين .. بيغني يوم الأربع؟" سألاحظ لشئ ما في دماغي دائماً ما يسبقني بدقائق أو ساعات، أن اليوم هو الأربع فعلاً، وأنني ربما أكون حزيناً بمعنى من المعاني، وأنني لا أريد أن أكف عن الأغاني. كِدت أن أسقط أكثر من مرة في بئر الشعر بعد إذ أطلقت رهاناً صغيراً بأنني سأتوخى الحذر في سيري على ذلك الحبل، لئلا أقع فتبتلعني الجبال وترهصني الأوراق الرديئة. "لما اترك الأشعار .. حتماً هكون أجمل" قلت. "حتماً هكون أجمل؟ .. أنا already سئ .. يا صاحبي في المجمل .. لبس الحياة ضيق". هكذا كنا نتبارى بأحزاننا، لكننا في ذلك كنا فرحين، نكسر القدر بالسخرية، وتحدى الوجع بالبلاغة، البلاغة التي وجدنا فيها خيالنا سماءً نطير فيها بعيداً عن تراب الواقع ومهزلته. الملحمة التي نقلناها إلى أرضنا فسجلناها كآية تشهد أننا حاربنا مرفوعي الرأس. "ضيعت عمرك عالفرحة .. وكبرت فقير .. فكرك هتطير؟ .. عباس، مماتش بغلطة ريش .. أو لفة سير .. عباس، اتوضى، وصلى .. وصل للقمة الأعلى .. ونط، وعافر، طار .. من كتر الفرحة ماصدقش .. قلبه قرر ينهي المشوار .. ويقف في الجو .. عمرك يحلو .. لما تموت في اللحظة الأحلى" هكذا وقف الأخ في الجو، وهكذا أقف أنا الآن، أنظر للقادم وأنتظر.