السبت، 10 سبتمبر 2022

لن أفشي السر، سأنفجر بدلاً من ذلك


ذات يوم حملت سرا. كان سرا صغيرا لم يتطلب بئرا لحفظه، ولا لسانا جافا لإمساكه. كان سرا صغيرا في حجم بذرة رمتها يد القدر في قلبي. غفلت عنها فنمت، تجاهلتها فأزهرت، أنكرتها فأثمرت، شغلت عنها فأينعت، صرت حجراً فصارت شجرة، وكبرت حتى ضاق قلبي عن الإحاطة بها، كلمة طيبة أصلها ثابت في قلبي، وفرعها في سماء الغيب.

حملت سرا صغيرا، وعندما تضاعف قررت أن أفشيه. سأفشي السر. سأمسك هاتفي لأفشي، طرحت الهاتف أرضاً، ونزلت جواره: الرياضة مهمة للجسد، لعبت ٥٠ ضغط، ثم قمت لممارسة بعض الإحماء.. لم أكتفي، نزلت إلى الصالة الرياضية في شارعي، جددت الاشتراك السنوي، حاولت الهروب من المدرب الذي لم يراني منذ ثمانية أشهر، فشلت، رآني، سألتزم بكل ما قال بالتأكيد، أنهيت جولتي بين الآلات والأجساد، جففت العرق، وتمنيت الغرق، غرقت بعدها في النوم، حلمت، ثم ذهبت في الغيب.

استيقظت صباح اليوم التالي، جسدي منتعش، ذهني رائق، السر يلمع في مقدمة رأسي، ويتردد في الغرفة صوت الحديث بيني وبين نفسي، سأمسك هاتفي لأفشي. هناك ١٥ رسالة غير مقروءة، وسبعة إشعارات، ومكالمتين فائتتين. اليوم ليس يوماً مناسبا للتفاعل. سأكتب مقالا عن آفة العصر، أو عن موت الأمل في مصر. تراودني الرغبة في الكتابة كثيراً. لابد أن أستعيد طاقتي وحماسي: أولاً سأبحث عن شيء آكله، فمنذ صحوت وأنا على السرير، فلابد أن أتخذ الخطوة الأولى إلى الشبشب، ثانياً، سأبحث عن مكان ملائم للكتابة، وأنا لا أقبل بأنصاف المعايير: فتحت ورقة وكتبت معايير المكان، ثم انشغلت في حصر الأماكن القريبة والبعيدة التي تناسب مهمتي، ثم ضيقت نطاق الاختيار لتصبح المنافسة بين أربعة أماكن، أذن الظهر وبلغني التعب، سأستشير أحد الأصدقاء لمساعدتي في الاختيار بين المربع الذهبي. اتصلت بأول من جاء ببالي، وجدت رقمه مغلقا. لماذا أغلق صديقي هاتفه؟ إنها أول مرة أتصل به لأجد هاتفه مغلقا.. لابد أن هناك شيء ما، سأذهب إليه. ارتديت ملابسي ونزلت إلى السيارة لأجدها بلا بنزين، ثم عزمت على تفويلها لتفاجئني المحفظة بعدم وجود كاش. ذهبت إلى ماكينة السحب لتظهر لي رسالة بتجاوز البطاقة تاريخ التجديد، وعدم إمكانية السحب، مما يعني أنني: لن أفول، لن أذهب إلى صديقي، لن أنزل للكتابة في أحد أماكن المربع الذهبي، ولن آكل.. سأفشي السر!

الجمعة، 9 سبتمبر 2022

قد تموت الآن، لكنك لن تموت وحدك


قد تموت الآن، لكنك لن تموت وحدك كما عشت، ستموت معك كل الكلمات التي لم تقولها، كل الحب الذي لم تعبر عنه، كل القصائد التي زارت رأسك ولم تكتبها، كل العوالم التي بناها خيالك ولم تستقر على أرض، كل الأحلام بوطن أقل قسوة وأكثر تعبيراً عن قاطنيه، كل الهتافات التي احتفظنا بها لثورة جديدة تعدل ما شيدناه وقلبته العاصفة، كل الأبحاث التي كتبناها في المستقبل لرفعة هذا البلد وسعادة الأجيال التي خلفناها بعدنا، كل النقاشات التي لم تدور والحفلات التي لم نحضر واللحظات التي لم نقتنص.

لماذا نقول كل ذلك؟ سأذكرك كي لا تنسى، لكنك ستُنسى بالتأكيد، لأنك عشت وحدك، وقد تموت الآن، لكنك لن تموت وحدك كما عشت، ستموت معك كل تطلعاتك الوظيفية في عالم التنافس، سيموت معك طموحك العلمي ومكانتك الأدبية، سيموت معك زواجك ممن تحب وأطفالك الذين سيعيدون شغفك للحياة، ستموت معك علاقاتك الاجتماعية التي لم تستطع إنقاذها، والأسفار التي لم تحضر حقائبها، والأكلات التي لم تجربها، والضحكات التي تبادلتها في جلسات صافية لم يحضرها سوى أصدقائك والقمر والهواء وصوت الست والبال الهادئ، ستموت معك كل التجارب الاستثنائية؛ لم يسعفك الوقت للحاق بحياة الجبل، لم تنم في الواحة، لم تعش في الجزيرة، لم تلف العالم على ظهر سفينة، لم تحجز مقعدك مع الناجين إلى المريخ، لم تقابل نبي مجهول، لم تشهد النيرفانا، لم تقبل نيرفانا أو أمل، لم تفقد الأمل وتحمل السلاح في وجه الدول، لم تتوحد مع الآلة وتصبح جزءًا من الماتريكس فتصبح تائها غير عارف ما الواقع وما المصفوفة، لم تعبر الثقب الأسود وتقبض الزمن، لم يحملك نوح ولم يحاورك المسيح ولم يصحبك محمد، أعتذر لمحمود العسيلي، لست استثنائي، أنت واحد من ٧.٧ مليار إنسان، يعيشون الآن فوق كوكب الأرض، وسيمكثون داخله بعد قرن، وسيموت معهم كل صخب في حياتهم، كل غضب يكنونه لحكام اليوم، سيستبدل هذا الغضب بغضب جديد يحمله أولادهم وأحفادهم لحكام آخرين لم يولدوا بعد، بعضهم لن يخيب ظن التاريخ فيفسد فيها ويسفك الدماء، والبعض الآخر سيصبح في الأرض خليفة، ويترك ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وحينها سنعرف ما لا يموت: كل ما يبذر فيزهر فيثمر، وفي ذلك يستوي الشجر والعمل الصالح والعلم النافع والحب والحلم. سأحرص على ترك بذوري في كل ميدان، فقد أموت الآن، لكن سيعيش الأثر.