الحكمة هي العلم بمقادير الأمور، فالحاكم يقدر السلطات والثروات (السياسة هي التخصيص السلطوي للقيم)، والحكم يعلم الحد بين الصواب والخطأ، والحكيم يعلم مقادير الخير والشر، ولذلك سمي الطبيب حكيما، لأنه يعلم مقادير الدواء التي تشفي ومقادير الدواء التي تقتل، فأولها خير، وثانيها شر، رغم أن جوهرهما واحد. وذلك يعني أنه متى أوتى أحدهم الحكمة، فقد أوتى مقادير الكفاية، وقد أوتي خيرا كثيرا. ذلك أن خيره كامل، لن ينقلب بعضه شرا. أي أنه من الحكمة أن تعلم متى تكتفي مما تظنه خيرا، بعلمك المقدار الذي من زاد عنه قل، ومن سار بعده ضل: متى تتوقف عن الأكل، عن الشراب، عن النوم، عن اللهو، عن اللغو، عن الكلام، عن الصمت. أن تعلم متى يصبح عملك كافي فكل ما تعمل بعده يأخذ ولا يعطي، متى تصبح محاولتك مستوفاه فكل ما بعدها إهدار، متى يكون دورك محقق فكل استمرار بعده ابتذال. والابتذال كان بذلا لكنه زاد، وليست كل زيادة إضافة، فالمطر خير لكنه قد يزيد فيستحيل شرا ويغرق بشرا. والبشر غارقون في أيامهم، لا تظهر منها رؤوسهم كي يتوقفوا ويسألوا عن معنى الاستمرار. نستمر دائرين في دوائر لا نستطيع أن نرى غيرها، بل لا نستطيع أن نرى أصلا، غير أضواء متسارعة ومتداخلة كانت مشاهد. نستمر حتى ينفض الجمع ولا نشعر، تنفك الأيدي ولا نشعر، تهتز الأرض ولا نشعر، يقترب النجم ولا نشعر. ندور حتى نكسر الجاذبية، ندور معلقين في سمائنا وحيدين، ندور حتى نستحيل أفلاكا، يشير إلينا الناس بالدهشة فنخجل من الإعجاب. نبتعد بقدر صدقنا في السعي، ونظن أن البعد راحة. لا راحة في الانفصال عن الذات ولو فصلنا باب الجنة. لا معنى للحياة بلا تجربة ولا تسمى التجربة تجربة بلا نتائج ولا نتائج بلا نهاية. لا معنى للحياة بلا بدايات ونهايات مستمرة وكل استمرار غير ذلك موت. فعيشوا!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق