الجُمعة 25 اكتوبر 2013
الثانية ظُهراً
كانت الشمس حاضرة بنورها ودفئها الذي يُزيّن أوائل الشتاء حيث دَلَفتُ بهو بنايتي الصغيرة , التي تقبع في منتصف الشارع الواصل بين شارع الكورنيش المُطِل على نهر النيل وشارع شُبرا المشهور منذ القدم , إلى الخارج , وسِرتُ في جوٍ من الهدوء العام , حيث لا تزدحم الشوارع بالسيارات في يوم الجمعة , بل .. تكاد الناس تتجنب النزول إلى الشارع في هذا اليوم .. اللهم إلا للصلاة أو لقضاء حاجة.
وقد اكتسب هذا اليوم من الإسبوع هذه الصفات لما له من آثار على رؤوس الحُكم في الأنظمة العربية .. وقد فُرض في مصر مؤخراً حظر التجوال في كل الأيام سواء عدا يوم الجمعة الذي يتم تشديده فيه ليُصبح من السابعة مساءاً.
عَبَرتُ شارع الكورنيش وانتظرت قليلاً أو كثيراً حتى جاءت العربة التي أقلّتني إلى مشارف تلك الجزيرة .. وقد اجتزتُ الجسر لأجد نفسي في جزيرة الزمالك.
يحتل هذا الجسر مكاناً خاصاً في قلبي .. يجعلني استنشق هواء القاهرة النظيف , ونسيم النيل اللطيف , ويجعلني أرى القاهرة في صورتها الجميلة الممتدة عبر النهر , هو جسر 15 مايو الذي يطُل على الأبراج والمباني الفخمة يميناً ويساراً , ويطُل أيضاً على البواخر والفنادق التي تمتد بطول نهر النيل , وبينما أنا عابرٌ إياه أجد السيارات تطير من حولي , والصيادون يستعينوا بالصبر على أسواره , وأستعين أنا بطيب الهواء وحُسن المنظر وامتداد الماء على مواصلة مشواره.
هبط بي الجسر إلى الجزيرة ثم استكمل باقيه الطريق من فوقي بحيث أنه بطول شارع 26 يوليو الرئيسي في الزمالك تجد الكوبري يطُل على رؤوس المارة من أعلى , نزلت وسرت قليلاً إلى حيثُ مكتبتي المفضلة ثم سألت عن ضالتي وما وجدتُ نفسي إلا سالكاً طريق العودة .. إلى شارع الكورنيش مجدداً , وأما الشارع المذكور سلفاً .. فهو من أجمل الشوارع التي مشيت بها .. تزينه الأشجار من كل جانب , تُجمّله النظافة , تتوسطه حوامل الجسر , ينتشر به على الجانبين المحلات والأسواق والمطاعم والمقاهي والنوادي والمدارس , ينتهي عند ساقية الصاوي .. ذلك المكان الذي أخذ من شبابنا أعواماً من الشغف والحُب.
وأما المشاهد التي يطُل عليها الجسر من الناحيتين , والتي لاحظتها مرة ثانية في طريق العودة .. فكثيرة , ومنها وزارة الخارجية , مبنى الإذاعة والتليفيزيون , فندق ماريوت , فندق رمسيس هيلتون , مقر الحزب الوطني الهالك , فندق سميراميس , فندق شبرد , فندق فور سيزونز , فندق جراند حياة , برج القاهرة , والبواخر الراسية والمتحركة كلها من هذه الناحية , وأما من الناحية الأخرى فوجدت بنك مصر والبنك الأهلي وفندق كونراد وأبراج نايل سيتي وفيرمونت ناهيك عن بيوت المشاهير وسفارات البُلدان المُطلّة على النيل والمنتشرة على هذه الجزيرة.
وأما مآل الجسر من الجانب الآخر , فينقسم إلى خمسة طرق , الأول ينزل إلى طريق الكورنيش , والثاني ينزل أيضاً إلى ذات الطريق ولكن من الحارة الأخرى , والثالث لا أعلم مذهبه , والرابع يذهب إلى منطقة الإسعاف وشارع رمسيس , والخامس ينزل إلى الكورنيش أيضاً.
طريق الكورنيش .. الساعة الثالثة وعشرون دقيقة ظُهراً
نزلتُ حيث يؤدي بي الجسر إلى طريق الكورنيش مجدداً في نفس اتجاهي السابق مُذ رَكَبت في بدء الأمر .. ظللت سائراً وقد لاحظت اختناق جزئي للحارة المرورية المؤدية لشبرا ولكنه ما انفكَّ أن انفَك وعاد السير سلساً كما كان , تنتشر بطول الطريق الأشجار المُزينة بالطلاء الأبيض من أسفل على الجانبين , وأما جانبي الطريق فإحداهما ممتلئ بالمبانِ الحكومية والسكنية والفنادق وهذا الجانب يبدو لطيفاً بالنسبة للآخر , وأما الآخر فتنتشر به المجالس في انتظار الزبائن لكي يدفعوا ثمن المشروبات ويستمتعوا بهواء النيل , وهذا غير قانوني إذ أنه من المفترض أن الحكومة قد وفّرت تلك " الدكك " بطول الرصيف لاستراحة المارّة , لم يُخلق هواء النيل لكي يستغلّه هؤلاء , وبعد السور يوجد منزلق مُتسخ بعض الشئ يؤدي إلى النيل مباشرةً , قابلني جسر 6 اكتوبر فلم أصعده وأكملت , وجدت في هذا المنطقة أكثر من ثلاثون مركبة مُنتشرة بطول النهر من قبل بداية جسر 6 اكتوبر وحتى نهاية الجسر الذي يعقبه على التوازي , والتي قد خلقت في هذه المنطقة ضوضاء قد تكون مُبهجة للبعض ومُزعجة للبعض الآخر , وعبرتُ الطريق.
الساعة الثالثة وخمسة وأربعون دقيقة عصراً .. ميدان التحرير
عَبَرْت الطريق وجعلت المتحف المصري على يميني ولاحظتُ عندها مدى تشابُك الطُرُق والكباري وتعقيدها عند هذه النُقطة من وسط المدينة , أكملت مسيري حتى وجدتُ القائد عبدالمنعم رياض يشير إلىَّ بإصبعه ناحية ميدان التحرير , فاتَّبَعتُه , وما إن رأيت مشارفه حتى هالني المنظر .. دبابتين من دبابات الجيش المصري تحمين قطعة الأرض الجديدة المُكتَسَبة , وتَكَرَر المشهد مراراً بعدد الشوارع المؤدية إلى ميدان التحرير , حيث الدبابات والجنود , ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل إنك لتجد عند الضرورة عشرات الجنود والدبابات ومدرعات الشرطة والجيش أمامك حتى لتظُن للحظة أنك لم تلبث تحاول اجتياز حدود الدولة المصرية من ناحية ميدان التحرير !
أمّا وقد دَخَلت ميدان التحرير أخيراً - وقد مُنِعت من دخوله سابقاً أكثر من مرّة لأنه ليس من حقي التظاهُر , أو ليس هذه الأرض من أرض بلادي , أيهما أقرب ! - فقد رأيت أن أسجّل بعض الملاحظات :
- يبدو لي أنَّ الأعمال الهندسية المُلحقة بالفندق المُطِل على الميدان قد تم استكمالها مؤخراً بعد توقُف.
- تم تجميل الميدان وزرعه بالأشجار والمساحات الخضراء والورود وإصلاح ما قد تلف منه أيام التظاهرات وانتشار الباعة الجائلين وخلافه.
- يتم بصورة مستمرة مسح لوحات الثورة في شوارع محمد محمود وغيره , والكتابات التي قد تم كتابتها في أيام الثورة المختلفة ولكن بقى منها الكثير , ومعظم ما بقى هو ما على هوى الذي تولّي المسح , وحتى بعد المسح يتم الكتابة والرسم مجدداً لأن الأفكار لا يتم إزالها بطلاء الحائط.
- لا يزال شارع القصر العيني مُغلقاً بالكُتل الخرسانية.
وقد وصلتُ أخيراً إلى ناصية " سفير للسياحة وقرأت الفاتحة على الشهداء الذين سقطوا في هذا المكان يوم 19 نوفمبر 2011 , ودلفت حين رأيت طلعت باشا حرب يُلوّح لي من نهاية الطريق , فاتَّبَعتُه.
الساعة الرابعة وتسعة عشر دقيقة عصراً .. شارع طلعت حرب
سِرتُ حيث ناداني الباشا ولم أكن وحدي فقد صاحَبَتني البنايات بطول الطريق , أخذني جمالها وعَجِبتُ بطرزها المعمارية وتفاصيلها الغائرة والبارزة , يكمُن سحر وسط المدينة في هذا الجمال المُنتشر في شوارعها , وجدتُ في طريقي محال الملابس والأحذية والفنادق والبنوك ومحال العصائر والمطاعم والمقاهي العريقة وشركات الطيران والصرافة وقد لاحظتُ أيضاً وجود خمسة من مدرعات الشرطة في ميدان طلعت حرب في انتظار المُظاهرة التي أُعلِنَ عنها غداً في عين المكان ضد قانون التظاهُر , وظللت سائراً حيثُ المطاعم الكبيرة ومحال الحلوى المشهورة وقد ازدحم الشارع بالمارة قليلاً وبالسيارات ومع اقترابي من مركز طلعت حرب للتسوق لاحظتُ انتشار باعة الملابس بعرباتهم الخشبية وقوائمهم الحديدية على جانبي الطريق مما يتيح لسيارة واحدة العبور , وفي نهاية الطريق ظَهَرَت " فِرَش " الكُتُب وانتهى الشارع العتيق بالمقهى المعروف " الامريكيين " فنظرتُ يساراً حيثُ دار القضاء العالي وتذكرتُ الحكمة الموروثة في بلادنا قولاً وليس عملاً أنَّ " العَدْل أساس المُلْك " , وعَبَرتُ الطريق.
الساعة الرابعة وسبعة وثلاثون دقيقة عصراً .. شارع رمسيس
عَبَرت من أمام دار القضاء وسِرت بجانب محلات الملابس والأحذية والباعة الجائلين واجتزتُ شارعاً يشبه السوق على ناصية دار للسينما ومررت ببعض مطاعم الوجبات السريعة والعصائر حتى وصلتُ لتقاطع هذا الشارع مع شارع رمسيس , رميتُ نظري للناحية الأُخرى من الشارع حيثُ المنطقة المُسماة بالإسعاف واستطعتُ أن أتبيّن بعض ملامحها , شارع طويل يحيط به الباعة من كل إتجاه ويملأهُ صَخَب البيع والشراء وضوضاء السيارات فوقاً وتحتاً , فاستعدتُ نظرتي وسددتها يميناً وأكملتُ المسير.
كان رمسيس حينئذ مُعتدلاً في حركته المرورية , لا مزدحماً ولا سلساً , اللهم إلا عند التقاطع المذكور , وهذا شأن التقاطعات والميادين جميعها في قاهرتنا الكُبرى , شارع مُتّسع ويسير في اتجاه واحد .. اتجاه ميدان رمسيس , تُحيط به من الجانبين النقابات والجمعيات الأهلية والمراكز الحقوقية والمدنية والشهر العقاري والمباني الحكومية ومباني الشركات والمستشفيات , ويتخلل ذلك بعض المحال العادية من محال العصائر والمطاعم وأكشاك السجائر ومحال قطع غيار السيارات , ونسيت أن أذكُر أيضاً أن نُسَجّل ملاحظتنا لطراز البناء في هذا الشارع , فهو جميل ومُميّز , ناهيك عن بعض المباني العادية والمستشفيات التي لا ألمح فيها أي تميّز , ثم اجتزتُ شاشة الإعلانات ومن بعدها مبنى جريدة الجمهورية على شكل الكتاب المفتوح , وعبرتُ الطريق فنادى المُنادي أن " شارع شبرا مظلااات " فلبّيت.
رمسيس .. تلك المنطقة من القاهرة التي تمتاز بقدر مميز من الضوضاء , فالكوبري يجثم على ظهر شارع الإسعاف بما فيه من اختناق مروري وآلات تنبيه للسيارات لا تتوقف وأصوات الباعة في كل النواحي , غير اعتبار رمسيس موقفاً لكثيرٍ من الجهات في الجمهورية فضِف إلى ذلك نداءات السائقين . وأمّا المشهد البصري .. فلا يختلف كثيراً عن سابقه وإنما يؤيده ويُكمّله , إذ يتزاحم المارّة والباعة والعربات وكلٌ يسير في جِهته , وسِرتُ - كما تسير الخلية من الجسم , كما يسير الفرد من المجتمع , كما تسير الكَلِمة من العلوم - إلى حيثُ أروم.
الخامسة واثنين وعشرون دقيقة قبيل المغرب .. شارع شُبرا
انطَلَقَت العربة تاركة ورائها عشرات المُنتظرين في هذا الموقف المُمتد , مُخلّفة ورائها الأصوات والمشاهد , وظللتُ أشاهِد . عَبَرنا نَفَق أجهل اسمه امتدت بجانبه إصلاحات لم أستوضح كُنهها , ودخلنا شوارع أجهل اسمها أيضاً لكن أعلم انها تؤدي إلى شارع خلوصي ومنه إلى دوران شُبرا , لم يدخُل السائق شارع خلوصي وإنما فضّل اجتياز إحدى الحارات الموازية حتى يجتنب الازدحام ويوفّر الوقت ويؤدِ عين الغَرَض , ثواني ووَجَدتُ نفسي في شارع شُبرا .. الذي بدأ بدوران شُبرا وهو عبارة عن ميدان صغير تتوسطه مسلّة تم العَبَث بها وعنده ينفتح الشارع ليُفصِح عن حارة واحدة للسير , باتجاه رمسيس فقط , سِرنا في الاتجاه الآخر , وبينما نعبُر شارع شُبرا لاحظتُ زَخَرُه بالمحال والناس والعربات في كل أنجاءه , تنتشر به المحال من جميع الأنواع تقريباً ..فهَهُنا تجد المطاعم والمقاهي الزاخرة بالزبائن ليلاً ونهاراً ومحال الملابس التي لا تفرُغ من الناس ومحال الحلوى والعصائر وبائعي الفاكهة , بل إنك تجد أيضاً المُستشفيات والمصالح الحكومية والمدارس , ومررتُ بجانب نُقطة إطفاء , ثُمَّ بجانب قسم شُرطة الساحل بعرباته المُصَفَّحة بجنوده المُجَنَّدة بمخبريه بيافطته التي كُتِبَت بالخط الكبير " الشُرطة في خدمة الشعب " , والتي ذكَّرتني كيف كانت في خدمة " محمد الجندي " حين أرسَلَتُه إلى السماء .. بعيداً عن عَبَث الأرض , وظَللتُ أجتاز الشارع الكبير حتى انطلق صوت أحدهم من المقعد الخلفي " الإشارة ياسطى " فعَلِمت أنه قد جاء دوري في النزول , وأرسلتُ نَظَري صوبَ ميدان الخلفاوي , وعَبَرتُ الطريق.
الخامسة وسبعة وثلاثون مساءاً
كانت الشمس غائبة بنورها ودفئها عن المشهد في هذا الوقت , فقد أذَّنَ المغرب ولم أسمعُه , وكانت أنوار الشارع تُزيّن هذه الليلة المُنعشة من ليالي أوائل الشتاء حين دَلَفت بهو بنايتي الصغيرة , التي تقبع في منتصف الشارع الواصل بين شارع الكورنيش المُطِل على نهر النيل وشارع شُبرا المشهور منذُ القِدَم , إلى الداخل , وسِرتُ في جوٍ من الهدوء العام حيث لا تزدحم البناية بالناس في يوم الجُمعة , بل .. تكاد الناس تتجنب النزول إلى الشارع في هذا اليوم .. اللهم إلا للصلاة أو لقضاء حاجة.
هيثم شومان