الجُمعة 8 نوفمبر 2013
مرَّ الوقت ولم أشعُر. أعلَم أنني لابد أن أذهب وآتي قبل أن تتم السابعة مساءاً من يوم الجُمعة. دَفَعت الكَسَل والتفكير عديم الجدوَى واستنهضْتُ جَسَدي وارتديت ملابسي ونَزَلت. كان المغرب قد أذّن قبل نزولي بدقائق , استبدل الشارع نور الشمس بأنواره الصفراء المُبهجة .. مُضاف إليها أنوار المحلّات ولوحات الشركات والمطاعم , غير مصابيح السيارات التي كان يعُج بها الشارع حينئِذ. كان المرور متوسطاً من حيثُ السيارات والمارّة أيضاً.
وأمّا الشارع الذي أقطُن بإحدى عماراته , فيتميز بالهدوء والجمال والإتساع والأهمية , يصل ميدان الخلفاوي - بوابة شارع شبرا والزاوية الحمراء والمظلات وجسر البحر - بأبراج أغاخان التي تطُل على كورنيش النيل وتُحاذي مستشفى معهد ناصر وأبراج عثمان , يتميز بأناقة البناء وهدوءه , وتحرسه الأبراج من الناحيتين , وتزينه الأشجار من الرصيفين , وتعزز أهميته المَدرَسَتين , يوجد به محلّات قطع غيار السيارات وأحد المطاعم المشهورة وحلواني مشهور وصيدليات ومراكز للأشعة , لم أحتاج وقتاً لكي أتحقق من وجود كل هذا وأدوّنه , وإنما القيت هذه النظرة التي ألقيها منذ عشرين عاماً سكناً في هذا المنزل , وذهبت أتحسس اتجاه قدماي صوب مترو الأنفاق - محطة الخلفاوي.
عَبَرت شارع جسر البحر من ناحية شارع دولتيان ومررت بجانب مقهى الإسكندرية الذي لم يعتاد مروري بجانبه هكذا , فقد صرنا أصدقاء مؤخراً. قطعت السلالم جرياً وقطعت التذاكر وحَمَلني السلم الكهربي الأول إلى صاحبه ومنه قفزاً إلى داخل العربة التي كانت تنتظرني بالمحطة وتُرسل الإشارات والأصوات , لي.
أنبأَتني النظرة التي أرسلتها لعُمق المحطة قبل أن أستقر داخل العربة أن الساعة قد بلغت لتوها الخامسة والنصف مساءاً , حَمَلتني العربة التي كانت مزدحمة قليلاً إلى محطة الشهداء , التي كانت مزدحمة كثيراً. يهرع الناس للعودة إلى منازلهم بأعداد أكثر بالتناسب عكسياً مع الوقت المتبقي على بدء حظر التجوّل في شوارع مصر , لم يكن حظّي سيئاً كثيراً , فاليوم جُمعة , ولم تكُن تلك أكثر زحمة رأيتها في هذا النَفَق , فقد رأيت أكثر من ذلك بكثير , تعوَّدْت. خرجت واتجهت حيث أشارت العلامة الحمراء ( اتجاه حلوان ) , لم يكن الوضع مختلفاً كثيراً في المترو الآخر , بل إنني لا أتذكر .. كانت الزحمة مثلها هُناك , والذي تغيّر هو العربة والنفق .. والناس.
صَعَدْتُ أخيراً من محطة سعد زغلول .. كان ورائي سوقاً كبيراً لبيع الفواكه والخضروات والسَمَك وأشياء أخرى لم ألحظها , لم يكن سوقاً لأكون أكثر دقة فقد كان شارعاً من قبل وكانت السيارات تمُر من هنا يوماً ما ! مشيت في شارع منصور بحيث كان على يميني أحد هيئات وزارة التنمية المحلية وبجانبها مصلحة الضرائب العقارية التابعة لوزارة المالية , وعلى يساري يقِف التاريخ , عند بيت الأمة , وكان هذا الشارع , بل تلك المنطقة كلها تحتوي الكثير من المبانِ الحكومية والهيئات والمجالس والوزارات وهلُمَّ جَرى.
ظللت سائراً حتى بدا أمامي سوراً من الكُتَل الخرسانية المُكعّبة بطول الشارع فيما عدا ما يسمح بمرور سيارة واحدة , أرسلت نظري أبعد فإذا بها وزارة الداخلية. أعطيتها يساري وانحنيت مع انحناءة الشارع باتجاه ميدن لاظوغلي , كان شارع مجلس الشعب , مجلس الأمة سابقاً , كُنتُ أعلم مُسبقاً أن مجلس الوزراء يقع في هذه المنطقة , أهو هذا البناء الضخم على يساري ؟ رُبما. حاذى سيري كُلّه باتجاه ميدان لاظوغلي سور أسود على يميني , ظننت أنه سور مجلس الشعب , وإلا لِمَ سُمي الشارع بهذا الإسم ؟ وإلا لماذا كان السور مرتفعاً بما لا يجعلني أرى ما كان يقبع وراءه ؟ وبينما أشُب كي أتبين وأتحقق .. رأيت القمر هلالاً مُنيراً وَسَط ظلام السماء. تُرى هل كان يضحَك ؟ هل ما جال بأعماقي من الأمل قد بُعِثَ من أعماقُه ؟ هل هو من هَمَس في أُذني حينذاك وأخبرني إن الشعب سيجلس ها هُنا يوماً - كما يُفتَرَض ؟
تَرَكت تأملاتي على أسوار مجلس الشعب .. تنتظر الشعب , وذَهّبْت. كان هذا الشارع أيضاً يتميز بالمبانِ الحكومية , حتى أتى ميدان لاظوغلي , نبَّهني جمال الميدان الذي يرتكز على شكل دائرة مركزها تمثال لم أستوضح لِمَن - ولابد أنه كان لِمَن سُمِيَ هذا الميدان باسمه! - وتحيطه الأشجار والمساحة الخضراء والأسوار .. كان المنظر جميلاً , وكان الوقت يمُر , أعطيته ظهري وأكملت سير .. في نفس الشارع , شارع مجلس الشعب - مجلس الأمة سابقاً.
كان الجانب الآخر من الشارع مختلفاً تماماً. وإذا قلنا أنَّ الشارع كان نظيفاً فإن أرصفته لم تكُن كذلك , كانت القمامة قد بدأت الظهور في المشهد , القمامة المٌلقاة على الرصيف والمتكأة على الأسوار المُتهالكة المُتسخة , وأمّا الشارع .. فكانت الأبنية تقوم على طراز واحد , هذا الطراز الذي اتخذته المباني الحكومية وبعض المباني المُحيطة بميدان التحرير ووَسَط البلد , تلك الأبنية الصفراء ذات الأسوار الخضراء والتي لا يوجد بها أي شئ غير ذلك. وانتَشرت بالشارع محلّات قطع غيار السيارات بصورة مُلفتة - لِمَ يُراقبني هذا النوع من المحلات دائماً ؟ - , وبعض السنترالات على استحياء. أكملت. وفيما أنا سائر إذا بالأنوار تَظهَر من جديد. الأنوار والناس والضوضاء الخفيفة. وقد بدأ طراز البناء أيضاً يتغيّر , فإذا بالبنايات الطويلة , والملوّنة! عَلِمت أنني قد وصلتُ لتوّي إلى منطقة السيدة زينب , لكن ما لبثت أن أرسلتُ تلك النظرة واستعدْتُها سريعاً لأسددها مجدداً .. ناحية اليسار. لا أعلم لماذا أذكُر اليسار كثيراً هذه المرة .. لم أقرر أن أكون يسارياً بعد !
نظرت يساراً وقرأت .. " ألبان وحلواني الكرنك " .. " الكرنك .. أصل القنبلة " .. " سوق الاثنين ". كان هذا عندما دخلت شارع محمد فريد. لم يقِل هذا الشارع سوءاً عمّا قبله .. بل زاد. في أول الشارع كانت عربات الباعة تستقر على جانبيّ الطريق بالفواكه والخضروات , وكانت الأنوار تطُل من فوق الرؤوس - كعادَة الأسواق في مصر - وخصوصاً لأنني موجوداً في هذه المنطقة المشهورة بالقُنبلة التي يأتيها الناس من أنحاء القاهرة سعياً. ولمَن لا يعرف القُنبلة .. فهي عبارة عن قطعة مستطيلة من البسبوسة فوقها قطعة مثلها من الكُنافة يحيط بهم الكاستر والأرز باللبن ويوضع من فوق هذا كُله قِطَع الموز والتُفاح الذين يتم تغطيتهم جميعاً بعصير المانجو والفراولة ولكي تستقر الأمور في هذه البلدة الصغيرة كان لابُد من وجود الحاكم .. قطعة كبيرة من القشطة توضع فوق كل تلك الرؤوس ثم تُغلق العلبة السُداسية بإحكام. هذه هي القُنبلة التي اشتريتها .. وأكملتُ سير.
عُدتُ إلى الشارع الذي أصِف , ولم تكُن الشمس حاضرة لكي تُبرز لي باقي المساوئ التي أخفاها الظلام , ولم تكن الأنوار الصفراء والملونة ولوحات المحلات لتقوم بالفعل نفسه , وإنما ضافت على الشارع شيئاً من الجمال والسكينة. ظلّت عربات الفواكه والخضروات تتابعني إلى أن بدأت مرحلة أخرى من الشارع , وظَهَرَت المطاعم والمأكولات , ولم يقتصر الطعام والحلوى على المحلّات من الداخل بل امتدا إلى خارجها وإلى العربات على جوانب الشارع أيضاً , ناهيك عن المقاهي والمحال الأخرى والبقالة والمخبوزات , واستمر هذا الوضع إلى أن أتى التقاطُع .. تقاطُع شارع محمد فريد مع ميدان عابدين.
وهُنا بدأت مرحلة جديدة من شارع محمد فريد مختلفة تماماً عن سابقتاها , وهُنا عَلِمتُ أنني تركتُ منطقة السيدة زينب ودخلت في نظاق وَسَط البلد. نظرت يميني بينما أعبر التقاطع وأعجبني جمال المنطقة هناك , الأشجار , تخطيط الشوارع , تنظيم وطراز المباني , مبدان عابدين , وقصر عابدين. وعَبَرت. وعادت هُنا المباني العامة تظهر من جديد , وعاد طراز وَسَط البلد الذي أعرفه , وعادت النُسخة الثانية من ميدان طلعت حَرب .. وعاد التمثال الشامخ , المبتسم دائماً , الذي لا يكُف عن الأمَل , الذي لا يعلم عن أمر وطنية هذه الأيام شيئاً .. تلك الوطنية الزائفة , المُدَّعاة , تلك الوطنية التي استعاروا منها الإسم فقط .. زوراً وبُهتاناً .. لا يعلم عنها شيئ , أحد زعماء الوطنية المصرية الحقَّة. وألقيتُ نظرة على اللوحة تحت التمثال , وكان آخر ما وقعت عيني عليه قبل ما تقع قدماي في عُمق سلالم المترو .. محمد فريد ( 1868 - 1919 ).
لم تكُن رحلة العودة في المترو مختلفة كثيراً عن رحلة الذهاب , وإنما ما اختلف كان أنني ركبت هذه المرّة خطاً واحداً .. خط شبرا-المنيب , ولم أرتاد الخط الآخر .. خط المرج-حلوان.
مرَّ الوقت ولم أشعُر. أعلم أنني لابد أن أذهب وأكتُب قبل أن تتم الحادية عشرة مساءاً من يوم الجمعة. قررتُ أن أدفع الكَسَل والتفكير عديم الجدوَى وأستهض جسدي وأرتدي ملابسي المنزلية وأكتُب. كان العِشاء قد أذَّن قبل صعودي بدقائق , وظل الشارع يمتلئ بالحياة وسط أنواره الصفراء المُبهجة .. مضاف إليها أنوار المحلّات ولوحات الشركات والمطاعم , غير مصابيح السيارات التي كان يعُج بها الشارع حينئذ. كان المرور متوسطاً من حيث السيارات والمارّة أيضاً.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق