الجمعة، 15 نوفمبر 2013

قَلَم ومُذَكِّرة في شوارع القاهرة ! 3


كان المغرب قد أذَّن منذ دقائق , ارتديت ملابسي واجتزتُ سلالم البناية وبابها إلى الشارع. كان الجو لطيفاً والمرور هادئاً. أوقفتُ سيارة أجرة فوقف ونَظَر لي مُستفهماً .. فأجبت : جامعة الدول العربية.

بعد اجتيازنا شارع دولتيان باتجاه كورنيش النيل اتجهنا يميناً عند نافورة الماء باتجاه المظلات. لم أعلم لماذا كانت أضواء الشوارع في هذه الناحية غير مضيئة , أضاءت مجدداً بعد دخولنا منطقة معهد ناصر .. شارع كورنيش النيل.

على يميني كان نهر النيل وبعده من الناحية الأخرى - على ما أعتقد - جزيرة الورّاق , وعلى يساري كانت أبراج أغاخان ومستشفى معهد ناصر وأبراج عثمان ومعارض لبيع السيارات وأراضِ فضاء , ثم الشركات القابضة للكهرباء ودار المعارف ودار الوثائق القومية والأبراج السكنية المرتفعة , ثم نادي الكهرباء , ثم أبراج نايل سيتي وفندق فيرمونت ومول أركاديا الذي لم يتم إصلاحه منذ اندلاع الثورة في 28 يناير 2011 , ثم فندق كونراد وكازينو الشجرة .. نسيت أن أذكُر أن كل الجزء الأيمن على حافة النيل مملوء بالمراكب التي يملأها الغناء والرقص والصخب ليلاً وتزينها الأضواء بطول الكورنيش كل 50 متر .. عودةً إلى اليسار حيث بُرجيّ البنك الأهلي المصري ومبنى بنك مصر وأبراج المشروع القطري , ثم صعدنا كوبري 15 مايو.

كان المرور مزدحماً على الكوبري قليلاً لكن السيارات تسير , لم ننزل إلى الزمالك بل تجاهلنا فرع الكوبري الهابط وأكملنا بالفرع العلوي , اخترق كوبري 15 مايو كل عمارات الزمالك يميناً ويساراً من أول شارع 26 يوليو إلى آخره , فأنظُر يميناً وأجد تلك البناية السكنية بطرازها المُتقَن , وأنظُر يساراً فأجد هذا الفندق السياحي الفاخر , وأنظر يميناً فأجد صفّاً من المباني المتباينة الأشكال المتنوعة الجمال , وأنظر يساراً فأجد تلك المدرسة اللغات المعروفة , وأنظر يميناً فأجد فيلات المشاهير , وأنظر يساراً فأجد سفارات الدول , وأنظر يميناً فأجد نادي الشرطة , وأنظر يساراً فأجد هذا الجامع الذي يقابل ساقية عبدالمنعم الصاوي للنشاط الثقافي والاجتماعي , وتتلاشى الجزيرة فأجد نفسي فوق النهر مجدداً .. على ذات الكوبري , ويُشرف على النهر فندق صوت مصر , وبيت كوكب الشرق , أم كلثوم , وأكمِل سير فيقابلني أيضاً مسرح البالون , وأكمل فينحدر بنا الكوبري صوب جامعة الدول العربية.

لم يكُن للسيارات أن تدخُل شارع جامعة الدول العربية من هذا الاتجاه- كما كان للمارّة - بل كان علينا أن ندخُل شارع أحمد عرابي وندور مع الملف لنهبط في الشارع المُراد , نزلنا فإذا بنَجيب محفوظ - مفخرة مصر وحامل جائزة نوبل في الأدب - يٌلقي إلىَّ بتحية المساء , فابتسمتُ لهُ - كما ابتسم وابتسمَت مصر في عينيه - واتجهنا يميناً , حيثُ شارع أحمد عُرابي .. البطل أحمد عُرابي.

لم يكُن شارع أحمد عُرابي وحده هو ما يتميّز بتلك الأنوار في كُل نواحيه ولا بهذه البهجة في ضواحيه , بل إنّ تلك الأنوار وهذه البهجة من صفات منطقة المهندسين نفسها بكُل شوارعها المليئة بالمحلّات والمطاعم والسيارات والأبراج والشركات والبنوك. عودةً إلى الشارع السابق ذكره , فقد كان مزيناً بالأشجار من رصيفه الذي يتوسطُه , وعلى الجانبين توجد البنوك ومكاتب الصرافة , ثم محلّات الملابس , ثم عمر افندي , ثم استدرنا مع الملف وقفزنا في شارع جامعة الدول العربية.

بدأ الشارع بتلك الناصية المشهورة لكل مريديه والتي يحتلها كافيه ( سوليتير ) المنير دائماً , وعندما دخلنا حفّتنا الأضواء والكلمات المُشعّة من كل مكان حتى عجزت عن تسجيل كل ما رأيته في ذاكرتي , فمِن محلّات الملابس إلى فَرَشات الكُتُب , ومِن فُندق النبيلة إلى سور نادي الزمالك , ومن مطعم ماكدونالدز إلى مقهى سيلانترو , ومن أعلام الثورات العربية في ميدان البطل أحمد عبدالعزيز إلى الدبّابات وجنود الجيش بقرب ميدان مصطفى محمود , ناهيك عن الأبراج والشركات والفنادق التي انتَشَرَت بطول الشارع المُبهِج.

أمَّا وقد أتممتُ ما رميت إليه من هذه الرحلة , فقد توجَبَت عليَّ العودة .. أو اخترتها .. لم يعُد يتوجب عليَّ العودة مبكراً يوم الجمعة .. فقد قضت محكمة القضاء الإداري بإلغاء حظر التجوال الذي فَرَضته علينا السُلطة العسكرية منذ مدة بعيدة , ولله الحمد .. أوقفتُ سيارة أُخرى وقُلت : ميدان الدُقّي ؟

ظللنا سائرين في نفس الشارع باتجاه ميدان مصطفى محمود حتى عثرنا على ملف آخر , استدرنا وأكملنا سير بالاتجاه المُعاكس حتى وصلنا إلى شارع البطل أحمد عبدالعزيز ودخلناه , لم يختلف هذا الشارع كثيراً عما سبقوه , فقد كانت تمتاز معظم شوارع تلك المنطقة بالحضور والنور , بدأناه بسلسلة مطاعم ( أمريكانا ) على ناصيته مع شارع جامعة الدول العربية , وأكملنا حيث المباني السكنية والإدارية والشركات والمحلّات ومعارض السيارات , ثم أكملنا مجدداً وخرجنا إلى شارع وزارة الزراعة على الامتداد ذاتُه , ومررنا بجانب مباني الوزارة يميناً ولا أذكر ماذا كان يساراً , ومررنا تحت كوبري الدُقّي وقطعنا الثواني حتى صرنا تحت كوبري اكتوبر وأصبحنا بالفعل في ميدان الدقي.

عَبَرت الطريق من أمام ( التوحيد والنور ) وأصبحت في شارع التحرير .. حيث المطاعم والمخابز والمدارس ومحلّات العصائر ومحلّات المكسرات وبائعي الفاكهة والخُضار وبائعي الكُتُب وبائعي اللحوم والمشويات والأسماك , ثم سينما التحرير وبنك فيصل الإسلامي , ألقيت النظرة التي شَمَلَت هذا كُلّه وذُبتُ في أعماق الأرض متوارياً عن الزحمة والناس والأضواء والأبواق .. في مترو الأنفاق.

كان المترو هادئاً نسبياً في هذا التوقيت من اليوم , كانت الساعة حوالي الثامنة مساءاً , وعندما أقول هادئاً فإنني لم أقصد خلو مقاعدُه , ولا مساحات عرباته من الناس , بل أعني أنني ما رأيت ما أراه صباحاً قبل دخول المدارس أو عصراً بعد خروج الموظّفين , كان هادئاً.

مرّت رحلتي في أعماق الأرض بسلام , كان الشئ الوحيد الذي كدّرني ويُكَدِّرني كلما ركبت هذا الشئ .. تلكَ المحطّة التي أغلقوها ونسوا .. تلك المحطة التي ألغوها واستحسنوا الوضع وماطلوا ماداموا في أمان .. لا أعلم سبب غلق محطتي الجيزة والسادات إلى الآن .. بالطبع لا يفرق هذا معهم في شئ .. فهُم لا يعصرون أنفسهم يومياً كُل صباح في محطة الشهداء حتى يصلوا إلى أعمالهم , وهم لا يتم التحرش بهم وسط تلكَ الملحمة العبثية التي اعتادها الشعب البسيط ..لم يُجَرّبوا سوى المركبات الفارهة والمواكب الشامخة والحراسة المدججة بالأسلحة , لم يشعروا بمعاناة الشعب , فقط يقولوا أغلقوا محطة السادات حتى لا يزعجنا هؤلاء بهتافاتهم. أغلقوها بأوجههم حتى لا يعودوا لميدان الثورة مرّة أخرى .. فكيف يعودوا والدبابات تُحاصر مداخل التحرير كُلّها ؟ .. وأمّا الكثافة التي كانت تحتملها محطة السادات باعتبارها المحطة المزدوجة الثانية , والتي انتقلت بدورها إلى محطة الشهداء فزادتها بشراً على بشر .. فلا يهِم !

كان جَرَس المنزل قد أذَّن منذ دقائق معلناً وصولي , ارتديت ملابسي واجتزتُ رُدُهات المنزل إلى الغرفة الكبيرة. كان الجو لطيفاً والبيت هادئاً. أوقَفَني والدي وسألني أينَ كُنت ونَظَر لي مُستفهماً .. فأجبت : جامعة الدول العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق