كان الكلام يتدفق في طريقي إلى المنزل كما يتدفق ماء النهر عبر إفريقيا وصولاً إلى بيتي , أمّا وقد جلست لأسجل ما قد نويت تسجيله , فما أرى في داخلي إلا مثلما أرى هذه الصفحة البيضاء .. فلنبدأ.
يبدأ التسجيل من تسعينيات القرن الماضي .. أول ما أسعفتني الذاكرة على الوصول إليه .. حيث الفصل المدرسي وصورة الرئيس مُبارك أعلى العَلَم فوق السبّورة .. هذا التكوين الذي لم يتغيّر بتغير الفصول والمدارس المشتركة واللغات والحكومية , بل كان صورتين في المدارس الحكومية , أحدهما فوق العَلَم والأخرى تحته لتأكيد الاحتواء. كان هذا تجريد لمخيلة الطفل الذي ظل ينمو في مواجهة هذا الواقع الذي لم يتغير .. بل كان هذا هو الواقع حتى بالنظر في الأفق الأوسع .. الصفحة الأولى في الجرائد اليومية .. الخبر الأول في جميع نشرات الأخبار المصرية .. أين ذهب ؟ كم جلب لشعب مصر العظيم من المكاسب ؟ كم بدا قوياً في الجامعة العربية ؟ كم كان مثالاً للقائد العربي في الأمم المتحدة ؟ كم أبكت ابتسامته الحنونة جموع الشعب الذي لم يجد من " يحنو عليه " مثله .. كان الشئ الحقيقي والثابت الذي يدركه المصريون بعد وجود الله من فوق السبع سموات .. هو الرئيس مبارك.
كنتُ طفلاً , وظللتُ طفلاً كثيراً حتى بعد اجتيازي مرحلة الطفولة .. كانت نظرتي للمجتمع بريئة مثلي .. لا تبلغ أن هذا الشئ مزعج ولابد من تغييره .. كنتُ أحسُب أن مشاكل هذا الشعب تكمن في الشعب ذاته .. كُنتُ أضجر من الزحام وأقول لم تتزاحمون هكذا .. حتى كبرت وزاحمتهم .. كنت لا أبلغ المعالجة السطحية إلى التفكير العميق .. كنتُ أرى التقارير الإعلامية عن فساد كذا أو كذا .. وأعيده إلى هذا الكذا ذاته , وأولئك الناس الأشرار الذين أرادوا ذلك .. كُنتُ أحزن للحوادث الجسام التي حدثت في عصر مبارك لكنني لم أكن أفكر , ولم أكن أربط بين الأشياء وبعضها .. كنتُ أرى في نفسي البَطَل الذي سيُخلّص مصر من هذه الحالة البائسة بحكمتي الفائقة وخبرتي العسكرية الفذة .. كنتُ طفلاً .. وكانت أقصى آمالي هي دخول دبابات الجيش المصري لتحرير فلسطين وإزالة دولة إسرائيل من الوجود .. لم أكن أعلم أن ذات الدبابات ستدوس المصريين يوماً .. لم أكن أتصور إنها ستزيل المعتصمين في مصر وأشلاؤهم هكذا بهذه البساطة , وكانت أعمق تساؤلاتي تدور حول ما إذا كان هناك مخلوقات فضائية تعيش في الكون غيرنا أم لا ؟! وإذا كانوا .. لمَ لم يأتوا وهم يعلمون تمام العلم أنني أحبهم .. ألم أجلس شهوراً أمام شاشات الكمبيوتر في السايبر في البحث عنهم وعن القصص التي تدور حول غزوهم الأرض ؟ ألم أنتزع كتاب أنيس منصور " الذين هبطوا من السماء " حالما رأيته ؟ لِمَ لا تأتوا حتى اليوم ؟ هكذا كُنت .. كُنتُ طفلاً .. حَسِبت أن المشكلة تُحل بمجرد التفكير فيها .. وحَسِبت أن الإجابة توجد في السؤال .. وحَسِبت أن الفقراء الذين تمتلئ بهم الشوارع يمكنهم أن يكونوا أغنياء إذا أرادوا وإذا سعوا .. لم أكن أعلم أن جوهر هذه المشاكل يكمن في خزائن الكبار .. الكبار الذين طالما تحدثوا عن الرخاء والإستثمار ومدى النمو الإقتصادي الذي تنعم به مصر في ظل الحكومة الجديدة .. كُنتُ طفلاً .. رأيت المجتمع من حولي رغم أحواله السيئة لا ينتفض .. لا يشتكي إلا بين بعضه وبعض .. بين مكاتب الموظفين .. على المقاهي ليلاً .. بين الأصدقاء وبعضهم في وسط البلد ... لم أكن أعلم أن من يرفع صوته يُقطع لسانه .. لم أرَ هذا البديل المخالف لأنه لم يكُن ليتجرأ على "الدولة" وإن تجرأ يذهب " ورا الشمس " .. هكذا كنت أعيش .. وهكذا أفسدوا الوقائع من حولي .. وهكذا كان الأهل والإعلام وكل شئ.
كَبِرت شيئاً قليلاً .. ووجدت في المنتخب المصري قمّة الوطنية والإنتماء .. كُنت أفرح كالمجنون إذا أدخل هدف .. وكانت تنتابني الحسرة ويحمّر وجهي إذا هزمنا فريق العدو .. ولا أنسى - ولا أعتقد أن أحداً ينسى - دور مبارك الوطني في حماية المواطن المصري في أي مكان .. وكيف أخذ تصفيقاً عميقاً من مجلس الشعب حينذاك .. أو ابنيه اللذان لم يعودوا لأرض الوطن إلا بعد الاطمئنان على جميع المصريين بعد مغادرة أرض المعركة - السودان , وكَبرت مرة أخرى .. وأدركت عبر كُتُب التاريخ التي ندرسها .. كَم أن القائد محمد حسني مبارك صاحب الضربة الجوية الأولى , هو السبب في نصر أكتوبر المجيد ! وكيف أنه كبد العدو خسائر فادحة مهدت للنصر فيما بعد .. وكم انهالت برقيات التهنئة للسيد الرئيس بعد شفاؤه من المرض الذي لا أذكر عنه إلا أغنية " اللي ضحى "التي أبكتنا جميعا ! هذا الوجه الباسم , الطيب , الكريم , الذي لا يفوّت فرصة للتحدث عن الأولوية للفقراء والمهمشين , هذا الوجه الحاسم إذا تعلق الأمر بأمن مصر والمصريين ! الودود , الضحوك , القوي في الشدائد , الهادئ , الذكي .. كُنتُ طفلاً , لم أكن أعلم , أنه قِناع.
ثم كَبِرت مرّة أخرى .. وعايشت انتخابات 2010 .. الذي كُنتُ بدوري متحمساً لها وكيف أنني قد كَبِرت وصار لي الحق في اختيار من يمثلني في مجلس الشعب , يا له من إحساس عظيم .. وطني .. ها هي لافتة السيد المرشح يوسف بطرس غالي معلقة أمام منزلي .. كُنتُ مراهقاً حينها .. لا أهتم بمدى موضوعية ومضمون الأحداث قدر اهتمامي بقدر التغيير والإثارة اللذين يترتبان عليها .. لم أكن أهتم إلا بالإثارة .. بالمتابعة .. كانت لُعبة جميلة أجدر بالمشاهدة من إنهاك الفِكر .. وأذُكر ما ذَكّرته الجزيرة وقتئذ عن تزوير الانتخابات .. وما كان لي حينذاك إلا أن أرُد على أحد أقاربي : بجد ؟ يااه.
واشتعلت النار التي لم تنطفئ إلى الآن , ولا أظنها تنطفئ فيما أحيا .. اعترضت عناصر من الشرطة عربة من الفاكهة كان يجرها شابٌ تونسي محاولاً شق طريقه إلى السوق , وحاولوا مصادرة بضاعته. عم هذا الشاب رأى الواقعة فهرع لنجدة ابن أخيه وحاول إقناع عناصر الشرطة بأن يدعوا الرجل يكمل طريقه إلى السوق طلبا للرزق. ثم ذهب العم إلى مأمور الشرطة وطلب مساعدته، واستجاب المأمور وطلب من الشرطية فادية حمدي التي استوقفت الشاب برفقة شرطيين آخرين أن تدعه وشأنه. الشرطية استجابت ولكنها استشاطت غضباً لاتصال عمه بالمأمور. ذهبت الشرطية فادية حمدي إلى السوق مرة أخرى في وقت لاحق، وبدأت مصادرة بضاعة الشاب ووضعت أول سلة فاكهة في سيارتها وعندما شرعت في حمل السلة الثانية اعترضها ، فدفعته وضربته بهراوتها. ثم حاولت الشرطية أن تأخذ الميزان، وحاول مرة أخرى منعها، عندها دفعته هي ورفيقاها فأوقعوه أرضًا وأخذوا الميزان. بعد ذلك قامت الشرطية بصفعه على وجهه أمام حوالي 50 شاهدا. عندها عزّت عليه نفسه وانفجر يبكي من شدة الخجل. صاح الشاب التونسي بالشرطية قائلا: "لماذا تفعلين هذا بي؟ أنا إنسان بسيط، لا أريد سوى أن أعمل".ثم حاول أن يلتقى بأحد المسؤولين لكن دون جدوى. ثم عاد إلى السوق وأخبر زملاءه الباعة بأنه سوف يشعل النار في نفسه ولكنهم لم يأخذوا كلامه على محمل الجد. وقف الشاب أمام مبنى البلدية وسكب على نفسه مخفف الأصباغ وأضرم النار في جسده. كان هذا الشاب طارق الطيب محمد البوعزيزي.
قبلها بشهور - يونيو 2010 - كانت وتيرة الغضب تتصاعد في مصر .. فقد رأى كُل الشعب المصري صور الشاب الإسكندراني الذي اختطفته الشرطة وأمعنت في تعذيبه حتى مات .. كان هذا خالد سعيد .. الذي انتفضت أطياف الشباب من أجله .. إذ كيف يُعامل النظام المواطنون بهذه الطريقة الوحشية .. وطَفَق الشباب ينظمون الوقفات الإحتجاجية في الإسكندرية والقاهرة وينظمون السلاسل البشرية إعلاناً منهم عن سقوط قناع هذا النظام القاتل ومطالبةً بالتحقيق في القضية وتقديم المجرمين من عناصر الشرطة للمحاكمة .. ثم تسارعت الأيام وأشرفت السنة على الإنتهاء معلنة عن سنة جديدة وأمل جديد ربما في مصر , ونزل الناس للاحتفال كعادة هذه المناسبات وصلّى المسيحيون في الكنائس داعين الرب على نشر الخير والمحبة بهذا البلد .. وبدلاً من أن يهنئ السيد الرئيس الشعب المصري العظيم بحلول العام الميلادي الجديد .. أرسل مبارك كلمات الأسى والعزاء ومعها كلمات القوة والحسم , وصَحى الشعب المصري كُلّه على هذه الواقعة الأليمة , تفجير إرهابي استهدف كنيسة القديسين بالإسكندرية ومقتل مالا يقل عن 23 مواطن.
يناير 2011 .. هُنا تسارعت عجلة الأمور .. فمِن مقتل خالد سعيد , إلى تفجير كنيسة القديسين .. ومِن البوعزيزي التونسي إلى أمثاله في مصر يعترضون مثلما اعترض ويضرمون النار بأنفسهم أمام صروح الدولة .. ومِن الثورة المشتعلة في التونس والآلاف الذين يتحركون في الشوارع معلنين إنتهاء حُكم زين العابدين وبداية حُكم الشعب , إلى شعب مصري ليس ببعيد عن هذه البُقعة من الأرض , يعاني ذات الفَقر , ويضجر من ذات النظام .. وله الحق في ذات المطالب .. وتسللت الفكرة وعَظُمَت في العقول حتى باتت واقعاً لا يقوَ أحد على إزاحته .. وباتت قوة الفكرة الجديدة في أوساط الشباب أقوى من القبضة الأمنية العتيقة التي ظلت تزعم حتى 24 يناير قدرتها على حماية الدولة وأن هؤلاء ليسوا إلا قلة قليلة تسعى إلى التخريب وزعزعة استقرار الأمور. كُنت وقتئذ أتابع .. نَضَج تفكيري قليلاً فعَلِمت أنّ هناك قوة .. وأنها قطعاً للدولة التي تحيط بنا من كل اتجاه .. وتابعت تصاعد الأحاديث على شبكة الإنترنت عن هذا اليوم .. اليوم الذي تحدث عنه الجميع فجأة .. اليوم الذي اختاره الشباب للتعبير عن غضبهم .. " يوم الغضب .. ثورة على التعذيب والفقر والفساد والبطالة " .. هكذا كان - على ما أذكر - أو على نفس المنوال .. اليوم الذي حدثتنا عنه أسماء محفوظ وأعلنت عنه صفحة " كلنا خالد سعيد " وتمنّى به الشباب والحركات للتعبير عن الغضب .. يوم عيد الشُرطة .. 25 يناير 2011.
كالعادة تابعت , وانتظرت .. سأل أحد الأصدقاء القدامى على جروب " أصحاب زمان " الذي ضمّ زملاء المرحلة الإبتدائية والإعدادية عن رأينا في يوم 25 يناير وما إذا كان يمكننا بالفعل أن نغير شئ .. لم أذكر أنني جاوبت وقتها , كان السؤال وإجباته لا يدور في محور اهتمامي وتفكيري , إنما رد عليه أحد الأصدقاء وقال أننا لن نستطيع. كان جميع أفراد الأسرة في البيت في هذا اليوم - الثلاثاء 25 يناير 2011 .. لا أعلم هل تغيبوا عن العمل خوفاً من حدوث شئ أم أنها كانت أجازة بمناسبة عيد الشرطة ؟ على أي حال جلسنا .. وانتظرنا أن يحدث شئ في الساعة الثانية ظهراً , ولا أعلم ما كنا ننتظر أن يحدث وقتها بالتحديد .. هل كنا ننتظر هبوط نيزك من السماء مطبقاً على ظهر البيت والدولة بأسرها معلناً نهاية النظام أم ماذا ؟ أعني هل أنني كنت بالغباء الذي يدعني أفكر في حدوث شئ ما مختلف في الساعة الثانية تماماً ؟ على أي حال فتحنا الجرائد لنرى , لم نجد شئ إلا حوار السيد وزير الداخلية حبيب العادلي الذي أخذ صفحة الأهرام الرئيسية كلها بمناسبة عيد الشرطة .. فتحنا شاشات التليفيزيون لم نرَ شئ .. إلا أننا رأينا القناة الأولى تحتفل بعيد الشرطة طوال اليوم تقريباً .. انسدل الستار على أنوار النهار .. وجاءت الأنباء حثيثاً عن خروج المظاهرات فعلياً وجاءت بعض اللقطات أيضاً وكانت الهتافات " عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية " .. ثم أتى منتصف الليل وكانت الصورة مبهرة حقاً .. جموع الثائرين يتجمعون في ميدان التحرير ويطالبون بحقوق الشعب المصري بكل سلمية , كان هذا على أون تي في وعلّقت ريم ماجد على مدى جمال هذا المظهر الحضاري والأجمل منه المتمثل في حماية الأمن المركزي للمتظاهرين .. ثم نمنا وتم فض الإعتصام بهدوء.
تسربت الأنباء عن ضرب المتظاهرين في اليوم التالي مما أدي إلى غضب الشباب وزعمهم مواصلة المطالبة بالحقوق , ولم أذكر عن هذين اليومين " الأربعاء والخميس " إلا أنه تمّت الدعوة بصورة كبيرة للنزول يوم الجمعة " جمعة الغضب " .. وقد كنا في هذه الأثناء نجهز أنفسنا للسفر إلى بلاد أمي , ميت غمر , الذي كانت تنتزعه وتنتظره كلما أتاحت الفرص .. وسافرنا الخميس .. ثم أتت الأخبار ليلاً ولازلنا في الطريق بوفاة عمّتي - رحمها الله وأسكنها فسيح جناته - وأنه يتوجب علينا الرجوع فوراً .. وإذا كنا قد علقنا في الطريق ولابد لنا من الذهاب والمبيت هناك ثم الرجوع صباحاً , فلا بأس.
الجمعة 28 يناير 2011 .. استيقظنا صباحاً وحزمنا أمتعتنا على أن نصلّي في البلدة ثم نفطر ونتوكل على الله .. وقد كان .. بَدَت الأجواء مُلتهبة من دون أن يلفظ أحد بحرف .. كان هذا جلياً في الوجوه .. وما أن أتممنا الصلاة وسلّمنا حتى انطلق الهتاف .. " يسقُط يسقُط حُسني مبارك " وانطلق الناس وراءه في المسيرة .. هالنا المشهد أنا وأخي .. وقد كان مثيراً لنا كمراهقين يحبّون الأشياء الغريبة والشّاذة أن يحدث مثل هذه الأمور أمامنا .. لم نكن نرى المظاهرات إلا في الأفلام القديمة .. فسرنا في المسيرة وراء الناس ومررنا بجانب المنزل حيثُ كانت أمي تتابع من أعلى .. " إطلع .. إطلع ! " فنضحك , " إطلع " فنُمعِن في غيظها ونردد وراء الناس بطفولة بالهة .. وتركناهم وصَعَدنا , كان أهل البيت الذي كنا فيه يتابعون الأحداث عبر قناة الجزيرة .. القناة المُثلى لمتابعة أحداث الثورة حينذاك .. فكلنا يعلم ماذا كانت القنوات الأخرى تفعل .. وكانت قمة الإثارة عندما نرى في المشهد ميدان التحرير خالياً إلا من جحافل جنود الأمن المركزي وأشاوس المخبرين والقليل من المتسللين الذين يتلقون عقابهم أمام العالَم أجمع , ثم يصعد قلبنا ويهبط عندما يأتي الخبر " عاجل " في الشريط الأحمر الكبير المخصص لمثل هذه الأشياء .. من " وضع البرادعي قيد الإقامة الجبرية " .. إلى " التنديد الدولي بقمع المتظاهرين في مصر " .. وصولاً إلى " قطع الاتصالات تماماً عن جمهورية مصر العربية " .. وكان ذوو الرأي السديد في العائلة يبدون آرائهم ونظراتهم الثاقبة للأمور .. فمن يقول " دول عايزين يخربوا البلد " ومَن يضيف " ده البرادعي رجع من أمريكا عشان يقلب النظام " ومن يقول " البرادعي عميل الأمريكان وكل ده مخطط من أمريكا " ومن يقول " عايزين إيه مننا بس طب نروح ازاي دلوقتي ؟! " كانت الأخيرة أمي العظيمة .. وجلسنا ساعات في انتظار السائق الذي أتي بعد العَصر .. ثم ذهبنا وكان الطريق هادئاً تماماً وأظن أننا رأينا الكثير من المخبرين على مدخل المظلات , وعزمنا على شراء ما يتطلبه المنزل من احتياجات لأننا " مش عارفين هيحصل ايه ؟! " ثم صعدنا وقد كان المجرمين وقتها ينهبون ما لذ وطاب من المخازن أمام بيتي. لم أغيّر ملابسي تحسباً .. بعد المغرب على وجه التقريب .. ألقى شيخ الأزهر خطبة يحُث فيها الشعب المصري على عدم الانجراف إلى الفتن ومراعاة الوطن في هذا الظرف الشديد ويدعوا الناس للنزول لحماية الممتلكات .. علمت بعد ذلك أن في هذا الوقت كانت الشُرطة قد أُنهِكَت تماماً , وكانت هذه هي " العَلقة " المشار إليها في الأغنية العظيمة " أخدتوا علقة ماخدتوهاش في سنين ألياااليوووو " .. وكانت العَلقة .. وتابعنا في نفس اللحظات حوادث السرقة والنهب التي أصابت الكثير من المنشآت , وغير ذلك تابعنا حرق مقر الحزب الوطني الديموقراطي وما تلاه من تتابع حرق الأقسام وفتح السجون وانتشار المساجين في بقاع الأرض .. لَم يكُن هناك دولة في هذه الأوقات .. سَقَط النظام في يوم الثامن والعشرين من يناير عام 2011 .. وبعد مقتل المئات وإصابة الآلاف .. ظَهَر مُبارك على الشعب المصري أخيراً ! وأعلن أنه يدعم مطالب الشباب وحقهم في التعبير عن الرأي بسلمية واختلاف ذلك عن التخريب ونهب المنشآت وترويع الآمنين , وأعلن في نهاية الخطابة عن محاسبة كل من تورط في هذه الأحداث وإقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة في الأيام القليلة القادمة. في هذه الأثناء - بالتوازي - كنا نتابع صور الشهداء الذين يتساقطون على شبكة الإنترنت .. بدءاً بشهيد السويس , مروراً بالشهيدة سالي زهران وصور " الورد اللي فتّح في جناين مصر " .. كنتُ أحزن عليهم لكنني ما كُنتُ أدرِك بعد ما الذي يتوجب عليّ فعله بعد هذا الحزن .. لماذا ماتوا ؟ من قتلهم ؟ لماذا ناضلوا ؟ لم تكن تلك الأسئلة تدور في ذهني حينذاك .. ثمّ وصل المتظاهرون إلى ميدان التحرير وهتفوا معاً " الشعب يريد إسقاط النظام "
لا تلوموا من كان يتابع وسائل الإعلام وقتها .. فقد كان الإعلام المصري يدير ظهره للمشهد ولا يهتم إلا بكيفية تشويهه .. وهذه من أكبر الجرائم التي ارتكبت - وتُرتكب - في حق الشعب المصري .. التضليل .. تحدث الإعلام عن مدى التخريب الذي لحق بأنحاء الجمهورية وركّز على صور السرقة والنهب وترك المعركة - إلا القليل. كانت البلد متوقفة تماماً عن أي شئ من بَعد جمعة الغضب إلا عن متابعة المتظاهرين في ميدان التحرير .. والذين رفعوا مطالبهم إلى أعلى سقف .. إسقاط النظام .. تحولت المسألة من المطالب الاجتماعية إلى طَلَب الثأر من القتلة وسافكي الدماء .. وظلّوا معتصمين لا يكفّون عن رفع الطالب .. قرر الميدان .. " إرحل " .. وهكذا بدأت الثورة.
انطلقت وسائل الإعلام في هذه الأيام إلى محاربة المتظاهرين بكل السبل المتاحة .. مِن سب واتهام بالإرهاب , إلى تخوين ووصف بالعمالة , إلى المائتي جنيه ووجبة الكنتاكي , إلى التحريض الصريح ضد المتظاهرين .. وأذكر في هذا الصدد دعوة الفنان المبجل عمرو مصطفى إلى نزول محبي الرئيس محمد حسني مبارك لتأييد الرئيس في ميدان التحرير , ومثله الأستاذ مرتضى منصور والتوأم المتألق حسام وابراهيم حسن .. وقد كان.
وفي ليلة الثلاثاء 1 فبراير 2011 .. خرج علينا مُبارك بخطابه الذي أبكى الكثير .. كان الخطاب مؤثراً حقاً , فقد جرت بعض الأنباء عن أن بعض المتظاهرين يعتزم ترك الميدان وأنه " كفاية كدة وهو قال إنه هيمشي في سبتمبر " .. وانهالت الدموع من الشاشات .. مع أغنية " اللي ضحى " التي أتت في وقتها .. ولم نكن نعلم أننا إذا أتينا بقناة الجزيرة سنجد أن المتظاهرين لا يؤثر فيهم هذا الخطاب العظيم ! وأنهم لا يزالوا يتحدثون عن الشهداء , وأنهم لا يزالوا يرفعون الأحذية في وجه الرئيس , وأنهم " عايزين ايه تاني ! " .. أليس الصبح بقريب؟ بلى.
الأربعاء 2 فبراير 2011 .. الجزيرة .. كلينتون تدين الإعتداء على المتظاهرين في ميدان التحرير ودخول الخيول والجمال قائلة إننا لسنا في العصور الوسطى .. كان المشهد أمامي مثيراً إلى درجة تحجُب التفكير .. جيش من المتظاهرين .. أمام جيش من .. أيهم المتظاهرين أصلاً ؟ لا تعلم ! كل ما أراه هو مجموعة كبيرة من البشر تجري في مواجهة مجموعة كبيرة أخرى معززة ببعض الخيول والجمال , ثم تستعيد المجموعة الثانية نفسها وتنتفض في مواجهة الجمال والخيول ثم تجري نحو الهاجمين مجدداً .. نزلت في هذا الوقت لكي أشتري شيئاً .. وجدتُ في طريقي سيارة تخرج منها بنتان تغنيان على أنغام " الكلاكس " بحبك .. تيت تيت .. يا مبارك .. تيت تيت " .. ثمًّ استغربت قليلاً .. وعُدتْ. وظل اليوم كله في هذه الإشتباكات التي لم تتوقف حتى مطلع الفجر .. وقد هربت من هذا المشهد المُحزن إلى مباراة مصر وإيطاليا التي ذيعت على أحد القنوات هروباً من هذا الواقع المرير.
وظلّت القنوات والجرائد في عملها الدؤوب لتشويه الثورة ووضعها في غير نصابها الصحيح .. وقد سيطرت بالفعل على عقول الكثير والكثير من جليسي المنازل .. لكنّ الثورة كانت الأقوى .. ذهبت إلى الميدان بدعوة من أحد أصدقائي للنزول ومشاهدة الواقع عن قُرب .. وقد كان جميلاً فعلاً .. اجتزنا لجان الجيش بجوار رمسيس هيلتون ثم اللجان الشعبية الباسمة ثم ذُبنا في وَسَط الجموع .. كان أشبه بالمهرجان .. فهُنا الثوار يُطبّلون ترحيباً بالمنضمّين .. وهُنا الأعلام تُرفَع والهتافات تعلو .. وهُنا المعارض تُقام والثورة تجتاح أنواع الفنون .. وهُنا أتوه من صديقي وأدور وحدي حول الصينية ملتفتاً إلى من يتكلم في المذياع عن وجوب سقوط رأس السلطة ومن يعرض رسوم الكاريكاتير ومن يغني عن مأساتُه ومن يشاهد صامتاً مثلي ومن يدعوني للمجئ في مليونية الغد - الخميس 10 فبراير.
كانت تجربة عظيمة من داخل موقع الأحداث , ومحط أنظار العالم , ومركز اتخاذ القرارات في بلدنا التي صارت بلا سُلطة - حتى ومبارك في الحُكم كان هناك إحساس كبير بأن البَلَد مِلكاً للشعب الذي يملأ الشوارع - ثمّ أذكر أيضاً تكليف الفريق أحمد شفيق برئاسة الحكومة في أوائل فبراير واللغط الذي دار في المجتمع حول أنه " لا بديل عن سقوط مبارك ونظامه بالكامل " أم " أن الفريق شفيق وزير الطيران المدني الذي طوّر مطار القاهرة الدولي هو الأقدر على قيادة البلاد ودفعها للأمام " .. وجرى تلميع الفريق شفيق في الإعلام المذكور على قدمٍ وساق .. لتركيز أنظار الناس على الحكومة الفتية التي أتت كي تلبي احتياجات الشعب , ودفعهم عن حديث " الثورة " و " التحرير " وخلافه .. ثم جرت الأيام والثوار لا يتراجعون عن إسقاط النظام , والإعلاميون ومن ورائهم المشاهير لا يكفّون عن تشويه الثوار والتحريض ضدهم بل والدعوة إلى محاصرتهم ومنع الطعام عنهم وإحياناً إلى " ولّعوا فيهم ! ".. والنظام لا يستطيع أن يحل الأزمة .. يحاول أن يستدر عطف الناس بخطاب ثالث .. لا شئ .. يعين نائب للرئيس من الشخصيات الوطنية الهامة .. لا شئ .. يسند مهام رئيس الجمهورية إلى النائب وكفى .. لا أيضاً .. لا بديل عن الرحيل.
بسم الله الرحمن الرحيم .. أيها المواطنون .. في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد .. قرر الرئيس محمد حسني مبارك .. تخليه عن منصب رئيس الجمهورية .. وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة .. لإدارة شئون البلاد .. والله الموفّق والمستعان .. هكذا انتصرت إرادة الثوار على رأس النظام .. وهكذا عمّت الأفراح الشوارع والميادين ابتهاجاً بالعصر الجديد الذي تعيشه مصر بدون " حسني مبارك " .. أما أنا فقد أصابني بعد الإحباط في البدء .. ظننت وقتها أنه قد ظُلِم , ولم أكن أدرك مدى ما أصاب المصريين في عهده من فقر وجوع وفساد وأمراض وحوادث واضمحلال فكري وعقاب كل من تسول له نفسه التغيير. وَظننتُ أن بهذا قد انتصرت الثورة وانتهينا .. لم أكن أعلم أن الثوار سيعودون للميادين للمطالبة برحيل حكومة شفيق .. وقد كان في أول عهده ولم نكن نعلم عنه شئ .. فهو الرجل العسكري المميز الذي نهض بمطار القاهرة الدولي ليصبح على ما هو عليه , وهو وزير الطيران المدني .. وهو الرجل الذي استضافه الكثير من الإعلاميين متحدثاً عن برنامجه الحكومي المنظم وعن حكومته التكنوقراطية .. فَلِم تسقطوه إذاً ؟ أحبَطتْ بعد إسقاطه أيضاً ولم أكن أدرك أنه أحد أعمدة الفساد وأحد رجال النظام المخلصين.
ثُم جاء المجلس العسكري بجلالة قدره .. وقدم تحية إعزاز لأرواح شهدائنا .. وأتى عصام شرف .. الرجل الذي حُمل على أكتاف الجماهير في ميدان التحرير .. صارخاً بالهتافات الثورية التي ألهبت الجميع وجعلتهم يقولون .. ها هي الثورة نَجَحت إذاً وأتت على شكل وزراء لتحكم مصر وتدفعها للأمام .. وانتظرنا .. لم يحدث شئ.
وبدأت المشكلات تظهر في الصورة مجدداً - في اعتقادي - بدءاً من شهر مارس 2011 .. حيثُ الاستفتاء على التعديلات الدستورية .. وظهور الإسلاميين بشكل أكبر .. وحاربت الكتلة الثورية هذه التعديلات دون جدوى .. ثُم توالت الأحداث .. وكانت الأيام تكشف لنا شيئاً فشيئاً .. الوجه القبيح لهذه السلطة العسكرية التي لا تُخيّر عمّا سبقتها إن لم تكُن أسوأ .. فاندفعت تفُض الإعتصامات بالقوة وتجري كشوف العُذرية للفتيات في المتحف المصري وتُحاكِم آلاف المدنيين عسكرياً .. حتى أدركت الثورة حينها .. كان توالي الأحداث والمناقشات والخلافات والتناقضات يدفعني إلى التفكير رغماً عنّي .. واندفعت مع الأحداث في تتابعها وكشفها للأوجه القبيحة إلى أن حَسَمت أمري , وسِرتُ في رَكب الفريق الحقيقي .. الفريق المُدافع .. الفريق الثائر .. وهَتَفت يوم الجُمعة 9 سبتمبر 2011 .. يسقُط يسقُط حُكم العسكر.
عندها ازداد شعوري بالوطنية .. واذكُر أن أيام المجلس العسكري سجّلَت رقماً قياسياً في سماعي للأغاني الثورية في حياتي .. شعُرت أنني قائم في هذا البلد .. قادر على التغيير .. قادر على الاحتجاج على ما أراهُ باطلاً وظلماً .. قادر على رفع صوتي في وجه الحاكم الجائر .. عندها بدأت أتابع مجريات الأمور بتفكر وجدية أكثر .. وأشارك في الحركة الاحتجاجية في الميدان أيام الجُمعة وغيرها .. إلى أن كشف العسكر عن أقبح وجه من وجوه الحُكم العسكري .. وتجلّى معنى الحُكم العسكري حينها .. في كيف أن الدبّابة .. تدوس على لحم البَشَر.
هيثم شومان
الإثنين 23 ديسمبر 2013