تحملنا الأيام وتضعنا .. وتأتي الريح دوماً بما لا نشتهي .. فلا ننفك نفتح أعيننا لنرى .. إلا ونجد أنفسنا ذاهبين هناك .. حيث توضع كل الأشياء .. ويقف الناس جميعاً .. وتضيع كل الحقائق .. وكلما زاد اتجاه الوقت إلى ما نحنُ فيه الآن .. كلما زاد تعقيد القصّة .. وغابت التفاصيل .. عمداً أو من دون قصد .. غابت عنّا كل الأحداث والتفاصيل .. لنتذكر أشتاتاً منها نذكره لمن بعدنا حتى لا يضيع .
زاد الترقُّب في كُل شئ من حولي .. في الإعلام يتحدثون ويتوقعون .. وفي الصُحف يتهمون وينشرون حصرياً مخططات هدم الدولة .. وعلى الشبكة يهدد الفوضوين ويتحمس الثائرون ويرون فيه الخلاص .. يوم الثورة .. الخامس والعشرين من يناير .. وكلما زاد هذا الصخب وارتفع في الهواء العام .. كلما قلق الجالسون في المنازل .. يقرأون الصحف الرسمية في الصباح .. ويتراصّون أمام شاشات التلفاز ليلاً على العشاء .. ليخرجوا بذات النتيجة التي يخرجون بها في كل مرة .. من أراد أن يسلم فليجلس في منزله .. سينطلق الفوضوين والمخربون يعيثوا في الأرض فساداً ويأتوا على الأخضر واليابس ويحرقوا كل ما يقف أمامهم .. وسيكشف الإرهابيون عن وجههم القبيح .. فيحملوا السلاح ضد كل من تسوّل له نفسه مقاومة مشروعهم الظلامي .. وسيحتل المرتزقة من كل دول العالم شوارع هذه البلدة .. لأنهم لا يريدون الخير لمصر .. وسيظهر لابسي هذا القناع الذي لا يدل إلا على تلك الأغراض الماسونية الخبيثة .. وسينزل الشباب الأهوج الطائش ينفذّون ما طُلَب منهم بدون أن يشعروا .. يريدون حرق حصن الوزارة .. يريدون الخراب لمصر .. وستصطف دبابات الصهاينة على مشارف سيناء .. وستضيع حضارة السبعة آلاف عام .. إلى الأبد.
هُب أنّك أبٌ وكل هذه المخططات والتوقعات تتطاير من حولك , هل ستجازف بحياة إبنك الذي يدعو إلى الحقوق والقيم السامية ؟ بالطبع لا .. هذا ما يفعله الإعلام .. وهذه هي طبيعة الأُسر .. إن كان هناك ما يوحي بالخطر .. فليس من الضروري أن نسمح له بالنزول هذه المرة حتى وإن كنّا نحرص على حريّته وانطلاقه .. هكذا فعل أهلي وهكذا يفعلوا وهكذا يفعلون كلّهم .. لأنهم يتلقّون نفس الكلام ويتابعون نفس النظريات منذ زمن سحيق .. كُنتُ أعلم أنني لا أستطيع النزول في هذا اليوم بموافقتهم .. فآثرت ألا أكشف عن نيّتي .. وفي ليلة الأربعاء .. الخامس والعشرين من يناير .. وضعت المُنبّه تحت رأسي ونمت بنصف عين .. حتى اهتز في يدي ونجح مخططي في أن أمُرٌ كالريشة في جنبات البيت أصلي وأرتدي ملابسي .. وأغلق الباب دون أن يشعر بي أحد .
وصلتُ الميدان ما بين السادسة والسابعة صباحاً .. كانت تجمعات قليلة هادئة .. وربما هناك من ينظف وهناك من يعُد الفرشة لكي يكسب رزقه في هذا اليوم الحافل .. ومن ورائي صوت القرآن يضفي على الميدان روحاً وطُهر .. عند وصولي أرسلت رسالة واحدة إلى كل أصدقائي الذين علمت أنهم سينزلون في هذا اليوم .. وقد سجّلتهم كلهم بصيغة واحدة حتى أستطيع رؤية أي منهم إن أردْت .. كانت الرسالة مفادها أنني وصلت التحرير .. ظللتُ هناك وانسدلت أستار الظلمة وبدأ الناس في التوافد .. في البدء كان التجمع بالقرب من شارع محمد محمود .. على رأسه المنظمون يقدمون للثوار أمهّات الشهداء الذين ينتظرون القصاص .. ومن حولي يزداد الناس بصورة ملفتة .. يزداد الناس وتزداد اللافتات والأعلام وصور الشُهداء وكل شئ .. اتصلتُ بصديقي المذكور سلفاً هادي هشام حيثُ قابلتُه في الجيزة لنذهب معاً في مسيرة مصطفى محمود إلى الميدان .. وعلى رصيف المحطة كلّمتني أمي التي اكتشفت لتوها أن أبنها ليس نائماً على الفراش .. وليس له وجود في البيت .. إنه إذن نفّذ ما صبا إليه .. كان صوتها حزيناً مرتاعاً من فكرة أن يحدث أي مكروه في ذاك اليوم العصيب .. حاولت تهدئتها وإقناعها ألا تقلق وأنني ما نزلت إلا لأطالب بالحقوق .. وليس في هذا ضرر .. وصلنا إلى جامعة القاهرة حيثُ قابلنا الرفيق أحمد بدر والرفيقة مها غريب والرفيقة بسمة علاء والرفيق مصطفى أحمد وآخرون لا أتذكرهم فلتعذروني .. كنا نحنُ فقط في البدء .. لم نزل في الصباح .. إنها التاسعة أو العاشرة أو أزيد بقليل .. يفرغون الأوراق المقواة ثم يرشّون الرسوم على الحوائط .. " مبارك .. طنطاوي .. وجهان لعملة واحدة " .. وصورة لطنطاوي وقد فقد عينه مكتوباً تحتها .. " أترى ؟ " .. ومكثنا كذلك والناس تتزايد وتزداد من حولنا إلى أن صرنا نُعَد بالمئات أمام الباب الرئيسي لجامعة القاهرة .. هُنا بعثت لي أمّي بصديق الأسرة " سيد " الذي بُعِثَ في الأصل بوعز من أبي لكي يصطحبني معه بقوة إلى البيت .. لكنه اطمئن عليّ وطمأنهم أنني بخير وأن الشباب هُنا بخير وأن لا قلق عليهم .. وأخذ مُلصَق " أنا ضد المحاكمات العسكرية للمدنيين " .. ووضعُه على ذراعه وانطلق .
كانت أمي تعلم نيّتي قبلها .. فالأُم دائماً ما تفهم كيف يفكّر ابنها وتتوقع أفعاله .. وقبلها بيومين اتصلت بي من البيت وعلى صوتها آيات البهجة : " هيثم .. تعالى بسرعة عشان تشوف أول جلسة من جلسات مجلس الشعب .. بيقولوا كلام حلو أوي يا هيثم .. كلام عن الشُهَدا والثورة .. كلام يخليك تعيّط .. تعالى بقى يا حبيبي ومش لازم تنزل بعد بكرة بقى .. سلام " .. لم أكُن متحمساً وقتها لصعود الإخوان منبر المجلس .. وكُنتُ أذكر كما كان كل من حولي يذكرون مواقفهم .. كان مجلس الشعب بالنسبة لي مصدراً للضحك والفُكاهة .. ليس سخرية من أحد .. وإنما سخرية القدر التي تتمثل أمامي .. هذا المجلس الذي كان معظمه متجانساً مع بعضه البعض .. ومشاهده وحواراته الأسطورية التي لن أنساها .. جاءت مسيرة مصطفى محمود بعد طول انتظار .. وفجأة رأينا أمامنا حشوداً بالآلاف .. هالنا المنظر .. لم نكن نتوقع أن يخرج الناس بهذا العدد ليؤيدونا في مطلبنا بإسقاط المجلس العسكري القاتل .. كُلٌ هؤلاء مثلنا يناهضون قمع الحُريّات وفض الإعتصامات السلمية بالقوة المفرطة والقبض العشوائي على الشباب والزج بآلاف الثوار في السجون العسكرية وإجراء كشوف العذرية التي بررها اللواء عبدالفتاح السيسي آنذاك لمنظمة العفو الدولة , ناهيك عن التعذيب والبطش والقتل والفشل في تحقيق مآرب الشعب المُنتظر أو المضي قدماً في طريق الثورة التي بدأت منذ عام أو محاسبة المجرمين .. كل هذا كان مؤشراً للحُفرة التي وقعنا كُلّنا بها بحُسن ظنوننا ونوايانا .. جاءت المسيرة وانغمسنا في وسطها .. وقتها اتصل بي كلٌ من الصديقين أحمد عادل وإسلام محمد , اللذين كانا معاً .. في محاولاتنا لنقابل بعضنا البعض .. مستشهدين - بغبائنا المميز - بتلك اللافتة الكبيرة الحجم في شارع الدقي .. أو ذلك الفندق المترامي الأسوار .. وتقابلنا على آية حال .. وقتها أيضاً اتصلت بي خالتي لتخبرني أنها غاضبة مما فعلت وأنني إن لم أعود للمنزل فلن تُكلمنّي ثانيةً .. كانت الحشود تتضخم كلما اقتربنا .. وعلمنا أن مظاهرة التحرير لا تنتهي في التحرير .. بل أن أولنا في ميدان الأوبرا وآخرنا لا يزال في الجيزة .. كان إحساساً مهيباً بالنصر والقوة .. وأذكُر أنني حملت الرفيق مصطفى أحمد على كتفي ليلتقط صورة تذكارية للمسيرة التاريخية بطول شارع الدقي .. لا أعلم إذا كنت لازلت تحتفظ بها يا فتى ؟ سيكون ذلك من دواعي سروري .. كنا لانزال فريقاً حتى في وسط هذا التزاحم والتلاحم .. من حولنا أعلام الشُهداء وأقنعة الشيخ عماد ومينا دانيال وفانديتا واللافتات والهتافات في كل مكان .. كنا نشعر بالحرية ! وبدأ التزاحم الحقيقي مع نهاية كوبري قصر النيل باتجاه ميدان التحرير .. واقتنصت تلك اللحظة الهادئة لأطلق حنجرتي الصغيرة بأعلى صوت " يسقط يسقط حُكم العسكر " ويردد ورائي الآلاف في المسيرة .. ثم أُكمل وأعلو "الشعب يريد إسقاط النظام " فيُردد ورائي الملايين في المسيرة التي بلغ صوتها الميدان وهتف معها .. ودخلنا.
قبلها بشهر كُنتُ عائداً من الكليّة ومارّاً بالميدان .. كانت هناك حلقات نقاش صغيرة على أطرافُه .. تلك التي تبدأ بجدال بين اثنين من الشعب يسيران في الشارع .. ثم تتأجج بالمشاركات من أفراد الشعب الذين يمرّون بدورهم من هذه النقطة على الكوكب .. فيجذبهم الحديث ويشاركون فيه بعلم أو بدون علم .. كنتُ في أحد تلك الدوائر .. أسمع فقط - تعلمون أنني لا أتكلم كثيراً - وكانت في الصدارة من الحديث الإعلامية شهيرة أمين التي طفقت تدافع عن الثوار وتشتد على من يبررون القتل والسحل .. وفي نهاية حديثها سألتها " حضرتك تفتكري إننا هنعمل حاجة يوم 25 ؟ " فأجابتني " هنعمل " فأكملتُ " خايف يبقى عددنا قليل " فأنهت " هنبقى كتير " وابتَسَمَت .
كُنّا مستاؤون من منصّة الإخوان المسلمين بالقرب من عُمَر مكرم .. والتي كتبت بالخط العريض أنهم يحتفلون بذكرى الثورة وما إلى ذلك من اللافتات التي استفزت الثوّار حينها .. كُنّا في وادي نهتف ونصرخ ونحذق .. وهم في الوادي المُقابل يلوحون بأعلام مصر ويرقصون على الأغاني الوطنية أو الدينية .. جلسة في حلقة بالقرب من مجمع التحرير نرتاح ونتحدث والتقط لي الرفيق صهيب تلك الصورة التي أحبها كثيراً .. ومرّ الوقت واتخذنا قرارنا الجماعي بالجوع .. وتُهنا في شوارع وسط البلد حتى استقر بنا الحال في قهوة من مقاهي البورصة وعدد لا بأس به من أطباق الكُشَري إلى أن حلّ الليل.
انصرف العديد من الرفاق من المقهى مباشرةً .. بلغنا من الإرهاق ما أجلسنا بقية اليوم على المقهى نتابع الميدان من شاشته .. وتابعنا تلك المُحاولات الالبائسة لرفع تلك المسلة ووضعها في منتصف الصينية نصباً تذكارياً للشهداء .. لا أعلم ماذا حدث بعدها في هذا الشأن .. عُدنا للميدان أقل من مغادرتنا إياه .. أذكر في العودة الرفيق أحمد بدر والرفيقة مها غريب والصديق أحمد يسري وربّما الصديق إسلام شفيق .. ربما كان الرفيق هادي هشام معنا أيضاً .. لأنني أذكر أنه اغتاظ من أفعال منصة الإخوان وإفسادها لليوم بهذه الطريقة .. وغالط الإعلام بأن من نزلوا اليوم نزلوا ليحتفلوا بذكرى الثورة ! .. رغم نجاح اليوم وكثرة العدد والإحساس بالقوة والحماس .. إلا أن اليأس تسلل إلى قلوبنا مجدداً في نهايته .. فإذا بالناس ينفضّون .. ولا مؤشر لإعتصام أو استمرار تظاهر في الأيام القادمة .. وكأننا نزلنا لنحيي الذكري أو لنهتف وحسب .. وآخر ما رأيته كان هذا المشهد المزعج .. فتاة أجنبية في وسط مئات من الشباب تُجيئها وتذهبها .. لا تعلم من يضُر ومن يُدافع .. كلهم اندمجوا معاً في هذا المشهد المُريع .. وجائني صديق الأسرة سيّد وأوصلني للبيت حوالي الساعة الثانية عشرة منتصف الليل .. وحاول تهدئتهم وصَرفُهُم عن أفعالي .. وغَرِقْتُ في سُباتٍ عميق .