عندما ذهبت إلى البيت , تابعت على موقع " تويتر " خبر إلقاء البنات المُعتقلات في الطريق في الصحراء , ثم قدرتهم على الوصول لمن استطاع الوصول إليهم وإقلالهم مرة أخرى إلى القاهرة بسلام , وتم حجز الشباب , الذين ربما ظلوا يُحاكموا بهذه الوقفة حتى شهور قليلة ماضية , أو حتى الآن , لن أبحث الآن , سأكتُب.
نِمت يومها وطغى على رأسي اليأس بعد أحداث يوم طويل , وبعدما عيا جسدي من الإرهاق والسير والجري والغاز السام الغبي , وصحوت يوم الخميس 28 نوفمبر 2013 متأخراً , غير آبه بمحاضراتي ولا بأي شئ , لبست ملابسي السوداء , ووَضعت كمامة الغاز في جيب سُترتي السوداء الخارجية , وبلا حقيبة , نزلت.
وصلت في وقت الظهيرة , وأول من قابلني وقتها هو صديقي أحمد البدوي , أو أن صديقي الآخر اسلام عاطف قابلني أولاً اثناء جلوسي شارداً في منطقة " الجبلاية " بحرم الكلية , وتحدثنا قليلاً عن ديواني وذهب , وكُنت في هذا اليوم اُفوّت امتحان ( ميد تيرم ) بلا إحساس بالذنب , كل تفكيري يومها كان عن كيف أن هذه حياة عليّ أن أحياها وأتعايش معها ؟ كيف نُعتقل ونُطارد بالليل ونسعى للعلم والبناء بالنهار , شئ ما لا منطقي يحدث في هذا البلد , شيطان ما يُحركها لكي تُصبح عَبَث في عَبَث , لن أستجيب لنداء التعايش السلمي مع الواقع البغيض , لأنني لا أستطيع أن أنسى معاناة الأمس , ولماذا ؟ فقط لنعبر عن رأينا. هذا عرض خاص لبلادنا فقط , ولفترة محدودة , عبر عن رأيك وستُقتل أو تُصاب أو تُعتقل أو تطارد في الشوارع , كل الخيارات مفتوحة أمامك , فقط تكلم!
قابلني أحمد البدوي في جلستي هذه وسألني " مالك؟ " بعدما رأى مظهري , فحكيت له عما أشعر من يأس وإحباط , وأسهبنا قليلاً في الحديث , وكان أحمد البدوي واقعياً , ومتفائلاً في نفس الوقت , وأنا اُحب فلسفته على أي حال.
بعدها قُمت لأرى أصدقائي في الناحية الأخرى من الكلية , ناحية " حورس " .. أذكر أنني كنت مع صديقي محمد أسامة وصديقي الآخر محمود مُعز , عندما سمعنا دوى إطلاق نار يأتي من الخارج , فقال محمد أسامة أن هذا يعني أن فاعلية ( طلاب ضد الانقلاب ) بدأت , ثم قمنا وتفرقنا قليلاً لنذهب ونتابع ما يجري عن قرب , وذهبت أنا وصديقي محمود معز باتجاه البوابة الرئيسية لنرى.
كانت البوابة مفتوحة في البداية , خرج بعض الطلاب ومنهم أنا لنرى الإشتباكات القائمة بين قوات الأمن المركزي على يمين كلية الهندسة وطلاب ضد الانقلاب أمام بوابة جامعة القاهرة , وعندما رأينا أن قوات الأمن المركزي تعتدي على طلاب ضد الانقلاب بالغاز المسيل للدموع والخرطوش وتصيبهم وتطاردهم حتى أبواب الجامعة , غصبنا كرد فعل فطري لمن يشاهد مشهد اعتداء قوات مسلحة على طُلاب عُزل , مثلنا , فهتفنا أو هتف البعض ضد الداخلية , فالتفتت الداخلية نحونا وأرسلوا لنا كتيبة سوداء من الملثمين المقنعين المسلحين بالعصي والخرطوش ليجروا ورائنا ولأول صدمتنا وذهولنا الأبدي : ليرفعوا في وجوهنا الأسلحة مباشرةً !!!
جرى الطلاب وتدافعوا ناحية البوابة الصغيرة المفتوحة , للحظة فكرت في أنني لن أسارع للدخول قبل طُلاب آخرين , فأهرب من وقع العصا ويُصابوا هُم , وانتظرت عدة ثواني حتى دخل الطلاب جميعاً , وحاولت أن أعطل أقرب غبي كان يرفع العصا في وجه الطلاب ثم في وجهي , بلا جدوي , يلعن اللي شال عقولكم وحط بدالها جزم!
عفواً , حاولت تعطيله حتى تأكدت من دخول جميع الطلاب فدخلت وقفل الطلاب البوابة ورائي وعساكر الأمن أمامها مباشرةً , بعدها تجمعنا عند البوابة الكبيرة وهتفنا ضد الداخلية وربما كان أشهر هتاف " الداخلية بلطجية " .. في هذه اللحظة - لحظة الهتاف - التفت لنا عسكري الأمن من فوق المدرعة وأرسل لنا قنبلة غاز داخل حرم الكلية , اصطدمت بمبنى الإدارة ثم وقعت على الأرض , وكانت هذه هي صدمتنا الثانية , أنه يمكن الاعتداء على الكلية نفسها , وليس على الطلاب فقط.
عندما اُطلقت القُنبلة جرينا في أرجاء الكُلية , وكان الغاز قد أثر على اتزاني - كما حدث قبلها بيوم - فساعدني محمود مُعز على المسير إلى أقرب مصدر ماء لكي أغسل وجهي , ثم وضعت الكمامة ومشيت قليلاً في الكُلية وعُدت إلى ساحة الكلية أمام البوابة مرة أخرى , وهنا اختلف المشهد تماماً فعندما عُدت كان تجمع الطلاب منقسم لجزئين , جزء يحتشد عند البوابة الكبيرة والجزء الآخر مُنتشر بساحة الكلية أمام البوابة الكبيرة , دخلت الساحة وقد بدأ إطلاق طلقات الخرطوش من قبل عساكر وضباط الداخلية الواقفين أمام البوابة على الطلاب المحتشدين الواقفين خلفها , وأصيب عدد من الطلاب من هذه الطلقات منهم صديقي محمود معز وصديقي الآخر حسين سويدان وصديقي الثالث أحمد ابراهيم وغيرهم , ثم كان تجمع آخر ثم طلقات خرطوش أخرى تصيب! وفي لحظات وجدت نفسي أمام البوابة أحاول منع هذا السيل الغبي من الاندفاع نحو الطلاب , منعه بإشارة يدي أو بوقوفي أمامهم إن لزم الأمر , ولكني لم أمنعه , ففي لحظة واحدة حدث شيئين , لا أملك علم الغيب لكي أفصله تماماً ولكني أفهمه كذلك في عقلي , عندما تقدمت باتجاه البوابة الكبيرة رافعاً يدي لقوات الأمن السوداء أن توقفوا , لم يتوقفوا , وظلوا يوجهوا صوبنا الأسلحة , وسمعت الأصوات تناديني بأن " إرجع " وأصوات أخرى متداخلة , وفجأة وجدت جسدي يطير إلى أقصى اليمين , أحدهم يحملني - حرفياً - ويضعني وراء الحائط ويصرخ في وجهي عن الجنون الذي أفعل , وكانت هذه الأيدي التي حملتني أيدي صديقي أحمد يحيى الذي يلومني ويسب أيماناتي حتى اليوم على هذه اللحظة الذي كِدُت أفقد فيها حياتي , وأما الشئ الآخر الذي حدث في نفس اللحظة , هو أن الرصاصة التي انطلقت من فوهة أحد قوات الأمن من أمام البوابة , اخترقت جسد طالب في السنة الأولى من قسم الكهرباء , يُدعي محمد رضا.
وكانت هذه , تحديداً , اللحظة التي غيّرت الكثير , جداً.





