عندما تستعرض اللحظات المثيرة في حياتك , المليئة بالأحداث والتفاصيل , قد يبدو لك أن بعض الثواني تمددت قليلاً لتصبُح دقائق , عندما تستعرض اللحظات المثيرة في حياتك , المليئة بالأحداث والتفاصيل , قد يبدو لك في بعض الأحيان أن الزمن قد توقف بك , وحدك. ووقتها فلن تنسى ما حدث أبداً.
عندما بدأ العدوان على المظاهرة , كنت في المكان الأيسر باتجاه المظاهرة , وخلفي الشارع , وكنت وسط الناس لأنه عندما صَعَدت حدة الأمور صَعَد قلبي وهَبط وأمنت نفسي وسط الحشد , ثم أنه بعد أن بدأ العدوان حدث شيئين متضادين في الاتجاه :
أولهما أن الجزء الأكبر من المظاهرة , جرى باتجاه الشارع المؤدي إلى ميدان سيمون بوليفار ,
وثانيهما أن الجزء الآخر من المظاهرة انقسم جزئين آخرين , فأولهم تم إمساكه عندما عمد ضُبّاط الشُرطة إلى إحكام الكمّاشة على المتظاهرين في الصفوف الأولى , ومنهم كانت منى سيف , وبنت أخرى , وشاب آخر حاول حمايتهما من أيدي المخبرين , والجزء الآخر وقف ذاهلاً للحظة , عندما رأي منظمي الوقفة يقعوا في براثن الغربان , عفواً , الشُرطة , وأنا كنت من الجزء الثاني , ولكن في الحقيقة فقد دبّت الرهبة في قلبي وآثرت الجري باتجاه سيمون , وفي أول طريقي وجدْت سارة شريف على ما أعتقد أو أتذكر , وقفت فجأة وقررت الرجوع , حاولت منعها بلا جدوى , ثم وقعت هي مع صديقتها منى سيف في قبضة الشرطة , وأكمَلت أنا جري , وفي أثناء ركضي انضممت لجموع الراكضين , ثم أنني وجدت أحد الشجعان يقف بشمروخ في وسط الشارع وفي مواجهة الشُرطة , أعتقد أنه قُبض عليه أيضاً , وأثناء جريي وقعت من فرط تأثير الغاز , والتقطني شاب نحيف مثلي , تعرفت عليه بعد ذلك , اسمه اسلام جيفارا , التقطني قبل أن أسقط وساعدني حتى وصلنا إلى كوبري قصر النيل , وهو مُعتقل الآن فقد كان بجانبي أيضاً في مظاهرة الاتحادية في مايو 2014 , هي لُعبة صغيرة , كلعبة النَرد , تتساءل متى يختارك الحظ لتكون من المعتقلين أو القتلى , هي لُعبة أحكمتها علينا الأنظمة الفاسدة , وهي وإن كانت لا ترقى لمستوى فيلم The Hunger Games , فعلى الأقل إنها أخذت منه شيئاً , وهو أنك تعلم مصيرك تماماً , طالما شاركت في اللعبة من البداية , ولكنك لا تعلم أين تلقاه.
التقطنا أنفاسنا عند أسود قصر النيل , وتجمعنا حثيثاً ثم صرنا حشداً قليلاً ثم تكلمنا بعضنا مع البعض , وقررنا أن الوقوف هنا ليس مجدياً , وكان المطرب الشاب رامي عصام بيننا , وقررنا أننا لن نترك زملائنا في قبضة الشرطة وأننا في الشارع حتى يعودوا , وذهبنا باتجاه ميدان طلعت حرب , وفي مسيرنا كَبُر عددنا وعلت هتافاتنا حتى وصلنا إلى ميدان طلعت حرب , وما هي إلا أوقات قليلة حتى عادت وجوه ثورية معروفة للميدان , وتم إغلاق طرق الميدان أمام السيارات , وكانت الخطة أن نسد الطريق على مدرعات الأمن اللاهثة , ولكنهم أرسلوا لنا القنابل من السماء على أي حال , وجرينا مرة ثانية.
جريت شارع طلعت حرب بأكمله , ثم بعد الجري وقفت , وبحثت عن الناس من حولي , تفرقوا في البلاد .. وعُدتُ خائباً , قررتُ في هذه اللحظة أن أستغل الحقيبة التي أحملها على ظهري وأن أذهب لشراء بعض الأدوات التي تفيدني في طبع ديواني الأثير , وكنت قريباً من العتبة , فأتممت حاجات الديوان , و...عُدت للميدان.
ويكأنني عُدتُ إلى ساحة المعركة , فأول ما وجدته في مسيري من محطة محمد نجيب إلى ميدان طلعت حرب هي النار المتصاعدة من إطار سيارة في وسط الطريق المؤدي للميدان , ودخلت, فوجدت أن الحشد تضاعف والروح ارتفعت , ثم هتف البعض , ثم تكلم البعض الآخر , ثم إنني لا أعلم بالظبط ماذا حدث كي يحدث مثل هذا , فبعدما جريت كانت العربات في الطرقات والناس تسير , وعندما جئت اختفت العربات وفرغت الشوارع إلا من البقية الثائرة , فقد كنا قاربنا على منتصف الليل , وهُنا باغتتنا الشُرطة بأعداد أخرى من قنابل الغاز المسيل للدموع , لنجري , ولكن هذه المرة باتجاه واحد , لنجتمع مرة أخرى عند البنك الأهلي.
عند البنك الأهلي , فهمنا من بعض الاتصالات أن بعض أعضاء لجنة الخمسين - ومنهم خالد يوسف - انسحبوا من الجلسة اعتراضاً على حبس النُشطاء , وفهمنا أيضاً أن الإعلام يتحدث عن الأزمة , وأننا هُنا "دوشة في دماغهم لحد ما يطلعوا زمايلنا " ... في هذه الأوقات كان زملائي في كلية الهندسة يكلمونني للاطمئنان على وجودي وسلامتي لعلمهم مسبقاً وجودي في الأحداث , وعندما فرغت بطاريتي , حفظت بسرعة رقم صديقي ( أحمد مجدي ) إذا لم تخونني الذاكرة ثم ذهبت لـ ( ست البنات ) - وهو اللقب الذي أطلق عليها بعد الاعتداء عليها في أحداث مجلس الوزراء - ولم أتذكر اسمها حالياً , وحدثت أصدقائي الذين أصروا على رجوعي , وأكثرهم ( ندا منصور ) التي أتذكر صوتها وهي تقول لي " إرجع يا هيثم " , فلا أجد نفسي إلا وأنا أقول " حاضر يا ندا " , وأنهض من على الرصيف , وأذهب إلى البيت.
28 نوفمبر 2013

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق