لن تُصدقني عزيزي القارئ , أعذُرك , ولكنه حَدَث.
بدون أي مقدمات تُذكَر , كنت واقفاً - أو جالساً - في مكان ما في شارع بين السرايات الذي أصبح فارغاً فجأة , وكان يجلس معي جمعٌ من الشباب أمام بناية متهالكة لا تصلح أن تكون بيت العفريت في فيلم خيالي , هذه البناية متآكل نصفها من جهات مختلفة ويسكن في دورها الثاني البنك المركزي المصري ويقف من فوقها ومن تحتها بعض عساكر الجيش ومُهندسان أحدهما يعمل في يمين العمارة والآخر يعمل في يسار العمارة ولا تسألني ماذا يعملان بالضبط فوق العمارة هكذا. المهم يا رفيقي أنني فهمت من الأحداث أنه قد تم إزالة شيئاً مهمة من هذا الدور الثالث تبعه هذا التهالك الشديد - بنكاً مثلاً - وأن الناس الجالسون هؤلاء أكيد ليسوا مثلي أو مثلك قد جائوا لمشاهدة الفيلم الدرامي في العمارة المقابلة. تطورت الأحداث وإذا بالمهندسين لا يستطيعا القيام بأعباء العمل - التي لا أعلمها ولا رأيتها أبداً - وحدهم , فطلبوا من عسكري - أو ضابط - الجيش الواقف في الدور الذي فوقهماً أن يأتي لهما بمهندس ثالث صغير سيسد بالتأكيد حاجة العمارة , في الثانية التي تلتها فُردَت على العمارة اللافتة الكبيرة التي تطلُب المهندس الصغير , آه والله وصَدَّقت ساعتها. المهم يا صديقي العزيز أن الناس الجالسون الذين أخبرتك عنهم من قبل انتفضوا من أماكنهم متجهين إلى البناية - وقد تبيّن الآن أنهم ليسوا متفرجين الحمدلله ولكنّهم مهندسين صغار جاءوا يطلبوا الرزق بأغرب طريقة ومن أغرب مكان في العالم , ولكنني سأعذرهم الآن. نسيت أن أخبرك أنه قبل طلب هذا المهندس أعطى رجل الجيش للمهندس الذي يعمل في يمين العمارة - والذي يشبه جاريدو - 45 ألف جنيه في ورقة زرقاء , لن أكذب وأخبرك أنني لم أتعجب وقتها. تكاثر الناس في الثواني التالية لإعلان الوظيفة لا تعلم من أين أتوا ولا كيف علموا , ولكن الرجل الواقف أمام العمارة كان فاسداً فاختار من علمه أو من قال له شيئاً معين , فهاج الناس هياجاً شديداً كيف يختاره هكذا بهذه الطريقة الفاسدة ثم بدا لي أن الغضب تحول إلى تجمع صغير يكبر ويهتف ضد هذه العمارة الظالمة التي تركت كل المهندسين الآخرين في العراء واختارت واحداً فقط بالفساد. وعندما هتفوا وتجمعوا وبدَت بداية لمسيرة ضد نظام ال..أي حاجة الفاسد اضطربت الأجواء وظهر لي من اللاشئ صديقي محمد مصطفى! أتحسبني مثلاً سألته " انت بتعمل ايه هنا ؟! " لا والله ما سألته , بل ذُبنا في المشهد تماماً وأكملنا جري وسط الجموع لأنهم قالوا أن هناك قنبلة للغاز تطير ورائنا , وأحد الرفاق وجد واحدة في وسطنا , وعَلِمنا وقتها أن مركبات الجيش على بُعد أمتار واجهت المتظاهرين وها هي قنبلة أخرى تطير من فوق رؤوسنا , توترت وكان يجب أن أجد مهرباً بأي شكل! فأنا لا أطيق أن أكون أنا وهذا الغاز المُريع في هواءٍ واحد , ظللنا نجري أنا ومحمد حتى قال جُملةً لا تناسب أي شيئ " عايزين حمّام " .. لا أعلم لماذا اختار الحمّام ليكون ملاذه الآمن , كان من الممكن أن يقول " عايزين محل , شارع , تاكسي , .." أي شئ نستطيع من خلاله الهرب , ولكن ليكُن , وكنا في هذه اللحظة نجري في عرض الصحراء وقد تبدد الناس , ووجدنا أمامناً باباً يبدو لوساخته أنه حماماً فحمدنا الله ودخلنا , وفي غمرة رضانا بأننا هربنا منهم , دخل الحمّام مجموعة من عساكر الجيش وقد اكتشفنا للتو أنه حماماً تابعاً للقوات المسلحة , فأشار لي محمد بسرعة أن أتنكّر وبدا لي ماسكاً في يده بدلة عسكرية لا أعلم من أين أتى بها ينوي لبسها لكي لا يكتشفه العساكر , يا للعبط يا محمد! المهم أنني خلعت أول شئ كنت ألبسه والذي اعتقدت أنه سيعبر عني , أما الثاني الذي علَي - والذي يشبهه فلن يعبر بالطبع! ولكي أداري الفضيحة وقفت أمام المبولة أمسك في يدي هذا الرداء وأداريه كأني أفعل مثلهم أمام المبولة , ولكنّهم اكتشفوا أمرنا , ولا تسألني كيف جرينا من بين السرايات ووقعنا في فخ الجيش في مدينة نصر! أخذونا ومشّونا في المنشآت الكبيرة والطُرقات الطويلة إلى أن حبسونا في مكان واسع لا يشبه سجوننا , ثم جائنا عسكري يقول أننا سنجلس في هذا المكان ثلاثة أيام عقاباً ولكن سيُسمح لنا بالاتصال بأهلنا لطمأنتهم مثلاً. فرحنا بالحديث وجلسنا. بعدها سمعنا أخباراً أن السيسي سيأتي بعد قليل , بل جائني أحد الرجال وقال لي أنك ستكون ممن سيقابلون السيسي! كيف اختارني ؟ وهل أنا من الحظ العظيم لأكون ممن سيقابلونه ! وأنا المسجون! ظللت أفكر أنا ومحمد في هذا الكلام الغريب وماذا سأقول للناس الذين يعلمون كُرهي له ؟ ثم استغربت كيف سأقابل السيسي بعد دقائق ولم يتم تفتيش البنطلون الذي أرتديه ! وماذا سيكون الأمر لو كان في جيبي سلاحاً ! تأسفت حقاً! بعدها بقليل سألت عن سبب أنني سأقابل السيسي فأشاروا لي على السيسي وهو قادم من بعيد ومعه نساء من حقوق المرأة هم من أشاروا له نحوي , فَسَكَتّ. جائني بعدها المُصوّر - وهو نفس الرجل أو يشبهه - وطلب التصوير فقُلت له " مُمُكن "فصوّرني صورة مثل التي صورها لي عبدالرحمن الشامي من أسابيع قليلة وعلى نفس المسافة ولكن في طرقة مختلفة , ثم ظل هذا المصور والمصورة زميلته يصوروننا من زوايا وأوضاع مختلفة حتى ضحكنا من فرط الهبل وقُلنا لبعضنا البعض : " سيلفي السجن! " . كان محمد مصطفى يسألني ماذا سأفعل عندما سأكون أنا والسيسي وجهاً لوجه ؟ هل أستطيع أن أخبره أنه قاتل ؟ هل ستتكلم في قضايا الإصلاح ؟ وتسائلنا تساؤلات كثيرة عن هذا الوضع المقلوب الذي انغمست فيه بلا حول وماذا سيكون موقفي بعد ذلك. بعدها بقليل - وقد كنت واقفاً وسط الرتب والعساكر في انتظار الأخبار - قالوا أنه على وصول فأشار لي الضابط أن اصمت سيقولون التحية , وقد كانت تحية مثيرة للضحك تتكلم عن عمل الجيش المكتبي في القصر وكيف أنهم يدبّون بأرجلهم على الأرض فتُخرج الأرض ناراً وأشياء من هذا القبيل والهبيل , ضحكت في سري وتابعت. دخلت فرقة موسيقية طويييلة تعزف تحية الجمهورية للقائد ثم دخلت مجموعات عظيمة من الضباط والعساكر وفي وسطهم السيسي وقد شاب رأسه! رأسه الذي كان عاديّاً منذ قليل! يبتسم للناس في هدوء العجوز. بعدها جاء وقت الاجتماع وجلس السيسي بالبدلة العسكرية - مظهر 30 يونيو - وحوله الناس وجلست أمامه وحولي محمد ثم بدأنا الحديث وقد تغير الوضع , فصار السيسي جالساً على الكنبة على يساري وعلى يمينه محمد وأنا على الكنبة في المقدمة - من مشهد المُشاهد الذي هو أنا. دار الحديث طويلاً - دقيقة أو دقيقتين - أخبرناه فيها أنه لا ينفع أن تكون نسبة المشعارف إيه 17% فقط وأنها يجب أن تزيد. بعدها استأذنتُ من الاجتماع وتركت محمد وفي طريقي للمنزل كنت أضحك بيني وبين نفسي على الذي حدث وأقول ماذا سيفعلون عندما يعلموا أنني جلست مع السيسي وبيني وبينه أربعة أمتار ؟ ونويت وقتها أنني عندما سأذهب للبيت سأكتب منشوراً طويلاً مثل هذا لن يصدقه الناس , فكأنه حلم! وأنني سأرفع صورتي أنا ومحمد مصطفى ( سيلفي السجن ) لكي يتأكدوا مما حدث! ولكن بسرعة هائلة وجدت أن الخبر قد نُشِر : السيسي يقابل عدداً من الشباب. ومرفق بالخبر صور الشباب الذين قابلهم وفي مقدمتهم صورتي التي كُتب اسمي تحتها بالخطأ " مُمكن هيثم " كأنها كانت جُملة تقريرية : " ممكن هيثم يبيع " , أو سؤالاً : " ممكن هيثم يبيع ؟ " "وكانت هي تماماً صورتي الأخيرة لعبدالرحمن الشامي , وروّحت فوجَدت الزُمر ينشر الخبر ولا يصدق أن الهيثم الذي طالما نظّر وأشعر وهتف جلس منذ قليل في مقابل السفّاح.
وعندما فتحت عيني , أدركت أنه كان حلماً فعلاً! ولكنني تمسكت بكتابته كأنني لم أقم وبنفس الصيغة التي كنت سأكتبها في الحلم.
ولكنني - عزيزي القارئ - لا أريد أن أتركك في غياهب الأسئلة التي تعصف برأسك من بداية قرائتك إلى الآن , وسألتقط من القصة بعض المشاهد التي استعصت على فهمك لتكون بعدئذ متماشية مع بعضها البعض :
" وكنا في هذه اللحظة نجري في عرض الصحراء وقد تبدد الناس , وهبط من السماء حمّاماً مثل الذي طلبه مُحمد , فقد كان يُصدق الآن أكثر من أي وقت آخر في قانون الجذب الذي يجعل الكون يتضافر لتحقيق ما تُريد , أنّه قرأ كتاب " The Secret " قبل أن يأتي مباشرةً "
" فأشار لي محمد بسرعة أن أتنكّر وبدا لي ماسكاً في يده بدلة عسكرية هبطت عليه من سماء الحمّام يتأملها ينوي لبسها ولكنها لم تنزل على مقاسه ففُضِح الأمر! "
" لِهول المشهد تقاربت الأماكن , أو توقف الزمن , أو طِرنا على جناح طيّارة , أو نسينا الوقت ونحن نجري , فوصلنا من هنا إلى هناك! "
" بعدها استأذنتُ من الاجتماع وتركت محمد بنذالة لا مثيل لها , ولا أعرف طريقه حتى الآن , بل أنني لا أعرف لماذا استأذنت , ولكنني ألاحظ الآن بالإضافة إلى أنني لا أعرف مصير محمد , فأنا لا أعرف مصير المترو الذي أركبه , لأنه يطير في الفراغ ".
هكذا , عزيزي القارئ , استطاعت الفانتازيا أن تكون أكثر منطقية , أن تُصلح ما أفسده العَبَث.
***
فانتازيا الثورة : الملحمة السابعة
أو قصة اختفاء شابّين أطالا النظر في المرآة المقعرة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق