الخميس، 16 يناير 2014

أنا والثورة (الكتاب الأول) : الجزء الثالث



تَمُر الأيام كاللحظات .. نعيشها .. نلمحها .. ننساها .. نتذكرها حثيثاً .. نتذكر رائحة الغاز ومشاهد نقل المصابين .. نتذكر ردودنا الكاذبة حين يسألوننا " أين كُنتُم " .. نتذكر الخيانة.

لم أذكر أنني قد تابعتُ الأحداث جيداً بعد مليونية 18 نوفمبر التي انتهت على اعتصام أهالي الشهداء .. لكنّ الأيام مرّت كعادتها .. تملأها التحليلات السياسية العتيقة , والوجوه المتكررة .. والنظريات الاستراتيجية الخاوية .. حتى تتفتح حدقات أعيننا حينما ترى اللون الأحمر على أقمصة الأصدقاء .. مرّت الأيام وتسربت إلى أذني أخبار فض الاعتصام بالقوة وبداية الاشتباكات .. كان كل هذا عادياً حتى رأينا كلّنا مشاهد الخزي .. فض تجمهر المتظاهرين بالقوة عصر الأحد 20 نوفمبر .. المشهد الذي صوّرته كاميرا المصري اليوم .. مشهد سحل البنات وحرق الخيام وضرب وقتل المتظاهرين وضربهم أمواتاً وتكديسهم بعضاً فوق بعض على ناصية الطريق وسحب أحدهم صريعاً إلى أقرب تجمع للقمامة .. كان هذا المشهد من إخراج قوات الأمن المركزي والشرطة العسكرية .. أتذكر نفسي جيداً وقت رؤيتي تلك المشاهد .. وأتذكر أيضاً السبابات التي أطلقتها واللعنات التي طالت المجلس العسكري في ذلك اليوم .. لم أقوَ على الجلوس مكاني بينما يُقتَل الناس في الشوارع .. حاولت .. فشلت .. قمت وارتديت ملابسي وأخبرتهم أنني ذاهب لكي أتلقى درساً في إحدى المواد بالكلية .. لم يصدقوني .. قالوا " إذا أردت أن تذهب الدرس فسيأتي أبوك معك " وبالفعل ارتدى ملابسه .. ألغيت الفكرة .. وكان المد الثوري قد طال فرع كليّتنا في الشيخ زايد .. كانت المشاعر كلها ثائرة في ذلك اليوم .. يومها تعرّفت على كثيرٍ من أصدقاء اليوم المقربين .. انطلقت المسيرات تجوب أنحاء الكلية  .. طفقنا نهتف .. وكما تعلمون .. يتعالى الهتاف عند المرور في المناطق المغلقة أو الممرات .. سمّعنا من كان في الكلية آنذاك .. " الشعب يريد إعدام المُشير " .. كان صديق الثانوية محمد مصطفى يتقدم المسيرة ويصوّر .. بينما يهتف الرفيق أحمد بدر هتافات الثوار .. ويرُد الصديق محمد رفاعي بهتافات الأولتراس .. ونتبادل الأدوار .. والحماس هوَ هوَ .. حتى انتهت الفعالية وأخبرنا كل من الرفيق أحمد بدر والرفيقة سارة ناجي بأنهم يجمعون المال كي يوفروا الأدوية والمتطلبات الطبية للمستشفى الميداني للمناضلين في ميدان التحرير .. بعدها أذكر أننا اتفقنا على اننا سنأخذ مسيرة من هناك إلى شارع محمد محمود .. ولكي أنتظر ذهبت إلى المحاضرة الثالثة .. وأخبرني صديقي وليد نادر بأنه إذا كنت سأذهب إلى محمد محمود بعد اليوم الدراسي فسيذهب معنا الرفيق هادي هشام .. وتعرفت في هذا اليوم على هذا الرجل الطيب .. لا أعلم ماذا حدث ربما ألغيت المحاضرة الرابعة وأخرجونا من الكلية .. وقتها لم يكن هناك الكثيرون ممن سينضمون للمتظاهرين في التحرير أو للمناضلين في محمد محمود .. ولكن من أراد الذهاب ذهب في مجموعته .. كان معي محمد مصطفى وهادي هشام في اتوبيس الجامعة .. تذكرت .. كان الاتفاق على أن الذاهبون من الشيخ زايد سيلتحقون بإخوانهم في هندسة القاهرة على أن تنتطلق المسيرة من هناك ... لم يكن العدد المنتظر هناك كبيراً .. ولكننا انطلقنا .. وهتفنا .. رغم غضب الناس في الشارع من هؤلاء " اللي عايزين يخربوا البلد " .. أكملت المسيرة .. وما أن بلغنا القصر العيني .. حتى وجدنا المسيرة الكبرى التي كانت على أطراف الميدان آنذاك .. كان المشهد مهيباً .. التحقنا بالثوار في المسيرة وبقيت ثلاثتنا كما هي رغم افتراق باقي الرفاق .. أنا ومحمد مصطفى وهادي .. بعدها بلحظات .. تسللت إلى أنفي رائحة الغاز المسيل للدموع لأول مرة في حياتي:) .. كان شعوراً غريباً .. لا يماثل شعوري بتلك القنابل السامّة التي يقذفونها علينا اليوم .. كان إحساساً رائعاً .. أقول هذا لأنني هنا .. في يناير 2014 .. على الكرسي البلاستيكي في غرفتي السعيدة .. بالتأكيد كان وقتها مؤلماً وشاذاً عن أي إحساس آخر .. ما إن حدث ذلك حتى ذهبنا إلى صيدلية العزبي .. التي قيل أنها عرضت تخفيضاً للاحتياجات الطبية للثوار .. اشترينا زجاجات من سائل أبيض لا أتذكره .. لكن رائحته كانت تشبه رائحة الخل .. وأذكر أننا " دهولنا " أنفسنا بهذه السوائل التي خرجت من الزجاجات التي انكسرت و اعتدت على الأكياس والملابس .. ولكنها أدت الغرض .. استمر الموكب الحافل بالهتاف والغضب .. ودخلنا الميدان عندما حل الظلام .. ومررنا بجانب شارع محمد محمود .. كان المشهد كذلك .. حشود الثوار على حافّة الشارع .. بعدها فراغ مُعبأ بالغاز الأبيض الذي يرهب من يهم بالدخول .. ويخرج من هذه الشبورة المناضل ذو القناع الذي رأيتم صوره جميعاً. قررت ثلاثتنا عدم الدخول .. كنت خائفاً .. كان الشارع موحشاً بغازه والمصابين الذين يخرجون منه بين الثانية والأخرى .. تيممنا على ناصية الشارع وصلينا المغرب .. ثم انغمسنا في ميدان التحرير الذي امتلأ على آخره .. هتفنا وأخذنا جولة في الميدان .. لا أحد كان يمر من الممر الخاص بالمصابين ولا من المنطقة الخاصة بالسيدات .. لا أحد يرفع شعاراً لحزب أو لأي شئ .. أسقطنا الأحزاب يومها .. لا شئ إلا " يسقط يسقط حكم العسكر " و " الشعب يريد إعدام المشير " .. أعلنها الميدان صراحةً .. لا أحزاب .. لا حركات .. لا أشخاص .. لا منصات .. الثورة والثوار فقط .. كانت هذه هي الحالة , وكان هذا هو الحماس ..مكثنا حتى التاسعة أو العاشرة مساءاً أو أكثر .. تبرع أصدقائي بالدم لعربات الإسعاف بجانب مجمع التحرير .. بعدها بقليل هممنا بالذهاب .. كان منظري بشعاً .. التقط محمد صورة لي في هذا اليوم .. وكلما أخبرته بأنني أريدها قال أنها ليست معه .. المهم أن هذا كان كفيلاً بألا أعود بيتي بهذا المظهر .. ملأ وجهي وملابسي البياض والأتربة .. عرض هادي عليّ أن نعود لمنزله كي نرتاح وأستعيد مظهري وأعود للبيت .. ودّعنا محمد .. وركبنا لمحظة الجيزة .. كان كل من يمر من أمامنا يعلم بأننا قادمين من ميدان التحرير .. يكفي لذلك مظهر وجوهنا الذاهلة .. حتى أن أحد الشابّات الطيبات أوقفتنا لحظة خروجنا من محطة الجيزة وسألت على حالتنا وحالة الناس هُناك .. وأخبرتها بأن هناك صفحة تسمى " TahrirSupplies " على ما أتذكر تختص بنقل المستلزمات الطبية للثوار في المستشفى الميداني .. وأخذت بريدها الإلكتروني كي أعطيها كل البيانات التى تساعدها على المساعدة هُناك .. كانت هذه زميلة النضال .. إنجي عبدالعزيز .. ثم مشينا لمنزل هادي .. تعرفنا على بعض أكثر في هذه الليلة .. وتحدثنا في الطريق عن مستقبل الثورة في هذه اللحظة .. وكنا قد علمنا قبل مغادرة الميدان أن المشير طنطاوي سيلقي خطاباً إلى الشعب الليلة .. كان الشعب في الميدان ساخطاً ولا يريد أن يسمع منه شئ غير تسليم السُلطة .. حتى أنه علمت ببعض المبادرات التي خرجت بتشكيل مجلس رئاسي مدني يتولى السلطة من ثلاثة من الشخصيات " الوطنية " آنذاك من ميدان التحرير ... دخلنا المنزل وكان من حسن حظي أن المياه كانت مقطوعة .. تُرى يا هادي هل كانت مؤامرة؟ .. جلسنا وصمّم صديقي أنني سآكل معه .. لا أمانع في مثل هذه الأشياء كما تعلمون " إن ماكُنتش تحلف بس:D " جلسنا وفتحنا التليفيزيون واللاب توب .. وسمعنا خطاب المُشير .. الذي قال فيه أنه قبل استقالة حكومة شرف وأن القوات المسلحة على وعد بألا تلطق النار على الشعب المصري وأنها تلتزم بما جاء في استفتاء مارس و أكد على الالتزام بإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها والانتخابات الرئاسية قبل يونيو 2012 , كما أكد أن القوات المسلحة لا ترغب في السلطة وأنها على استعداد لتسليمها فوراً إذا وافق الشعب على ذلك في استفتاء شعبي.

لم يغيّر خطاب المشير شيئاً من المتظاهرين في التحرير .. إن لم يكن قد زاد غضبهم وهتافهم ضد العسكر ونضالهم ضد قوات الأمن التي زادت من حدة الإشتباكات .. بالطبع كانت ليلتي بيضاء في البيت الذي علم بالفطنة أنني كنت هناك .. لا علينا .. استمرت الأحداث كما هي .. مظاهرات في ميدان التحرير .. مسيرات في شوارع القاهرة .. قتلى ومصابين في شارع محمد محمود .. وكانت ردود الفعل متباينة على الصعيد السياسي والإعلامي .. فهناك من الإعلاميون من أدان الأحداث .. ومن يطلق السباب على من في الميدان ويصفهم بالبلطجية والمأجورين .. وهناك من السياسيون من علّق حملته الانتخابية في الانتخابات البرلمانية التي كان مزمع اطلاقها في الاسابيع القليلة المقبلة .. ومن انسحب من الانتخابات أصلاً .. وهناك من قال أن ما يحدث هو محاولات البعض لإفساد العُرس الديموقراطي .. كانت الأخيرة جماعة الإخوان المسلمين .. ثم استمرت الأيام مع انباء مترددة حول تكليف كمال الجنزوري برئاسة الوزراء .. ثم الدعوة من القوى والأحزاب السياسية لجمعة الفرصة الأخيرة " جمعة تنحي العسكري " .. وتكليف الجنزوري بعد ذلك بالفعل برئاسة الوزراء .. مما لاقي رفضاً هائلاً في أوساط الثوار .. الذين قرروا نقل اعتصامهم عند مجلس الوزراء .. لمنع وزير مبارك من الدخول.

كُنتُ اتصفح الشبكات الاجتماعية كعادتي فجر الجُمعة 16 ديسمبر .. حين تسللت إلى الصفحة الرئيسية الأخبار والمشاهد عن الشاب " عبودي " الذي تم احتجازه وتعذيبه داخل مقر مجلس الوزراء من قِبل قوات الجيش .. وبدأت الأحداث في هذا اليوم ..ورأينا صور جنود الجيش البواسل الذين يقذفون المتظاهرين بالأشياء من فوق المبنى .. أو يشيرون إليهم بالأصابع أو الأعضاء .. ثم استمرت الأحداث على ذلك في الأيام التي تلت .. ورأينا القوات العسكرية وهي تجري تجاه المتظاهرين وتطلق عليهم النار جهاراً .. ومن يقع منهم تبرحه ضرباً وتنكيلاً وسحلاً وتعريةً .. كانت صور المذبحة بعيدة عن الوصف والتذكُّر حتى .. لا أعلم لماذا لا أتذكر شيئاً عن هذه الأيام تحديداً .. لا أتذكر أنني نزلت .. هل لاقتراب الامتحانات ؟ .. هل لأنني اتكاسل كثيراً ؟ .. هل لأنهم في البيت اصبحوا اكثر حرصاً واكثر اصطياداً لأكاذيبي ومناوراتي إذا أردت النزول ؟ .. ربما لأحد هذه الأسباب أو لسبب آخر لا أذكره .. ربما لأنها كانت ساحة حرب بمعنى الكلمة .. ليست كأحداث محمد محمود التي ضمّت الثوار في الميدان والمناضلين المضّحين في الشارع .. هذه المرّة كانوا كل من هناك مضحّين حتى طالت رحى المعركة الشوارع الأخرى وميدان التحرير نفسه .. استشهد في هذه الأحداث الشيخ عماد عفّت والطالب الدكتور علاء عبد الهادي والطالب محمد مصطفى .. دائماً ما يختار الرصاص الشهداء .. دائماً ما يخترق قلب الوطن ومجده .. ثم يخرج علينا الجنزوري أو المتحدث العسكري ليقولا لنا أن من هُناك بلطجية يخططون لهدم الوطن .. لماذا إذاً لا يموت البلطجية ؟ .. عن أي وطن تتحدثون ؟ إنه وطنكُم أنتم .. أنتُم من تريدون الاستقرار لا الشعب .. أي استقرار يجده الشعب تحت سلطات المذابح ؟ .. أي استقرار تجده الأم بعد فقد فلذة كبدها وأمل حياتها وقرة أعينها ؟ .. إنما هو استقرار رؤوس الأموال والمناصب العُليا التي تفزع من صوت الثورة .. ذلك الصوت الذي إذا استمر وعلا سيأخذ في طريقه كل الفساد والخزي الذي تنامون عليه .. نعم .. هذه الدولة التي نريد أن نهدم .. الدولة التي يهمها المصالح والمناصب والموائمات .. لا دماء الشباب .. سقط في أحداث مجلس الوزراء 17 قتيلاً .. وأذكر أنه بعد هذه الأيام ظهرت حملة كاذبون في الصورة.

استمر النضال في الأيام التالية .. لا نضال الاشتباكات والأحداث .. نضال الفكرة .. وعلى صوت الثورة في نفوس الشباب .. ونُظّمت المسيرات والحملات المناهضة لحكم المجلس العسكري في مختلف المناطق .. وأذكر منها بعض الفعاليات التي أقيمت في الشيخ زايد .. ثم المسيرة التي أخبرني بها الرفيق أحمد بدر في منطقة المعادي .. والتي انتهت بغناء " شيد قصورك " للشيخ إمام .. وكان الجميع ينتظر اليوم المرتقب .. 25 يناير 2012.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق