الثلاثاء، 28 يناير 2014

الأخبار والمسائل في حديث الرسل والرسائل (3)

عَصَفَت بجسدي الرطوبة .. في أوائلِ طوبة , واعتزمت أشد الرحال .. حتى يتغيّر الحال , فقد ركدت بحور الغبطة من أسابيع .. وأتت كل فصول العام إلا الربيع .. فنزلت أجري في بقاع الأرض وأهيم .. وتركت أشكال الحضارة واتّخذت البهيم .. وعَبَرت صحراء الشوق وعيني على بحر اللقاء .. كلما جريت نحوه كلما ابتعد .. حتى نفذ الكلأ والشراب .. هل أفنيت عُمري هذا وراء السراب ؟ أخذتني دوامات الحيرة والشطط .. ورأيت ذاكرتي تمتثل أمام عيني امتثال الجبال .. والتفت حولي الحبال .. وامتدت امتداد الكون .. أولها في عُمق الأرض وآخرها في آخر السماء .. وأحاطت بصري الأفعال والأسماء .. وعبرت فوقي جيوش جنكيز .. وتهدمت فوق رأسي الحضارات الأولى .. وانطلق الناس من حولي يكذبون الرُسُل .. وعلا فرعون في الأرض حتى سكن جوفها .. ورأيت أمام عيني محارق النازية ومحاكم التفتيش ومجازر الصرب ومذابح العرب .. وانفجرت أمام عيني العيون وقامت الزلازل .. ورأيت طيور الظلام تحلق بدروعها الحديدية الكثيفة وأنيابها الحيّة .. وعبرت من خلالي فوهات الدبابات إلى القدس .. وهبطت تحت قدمي صواريخ بغداد .. وانفجرت في رأسي سيارات لبنان .. واخترقت صدري رصاصات اليمن .. وأرهبتني مدرعات البحرين .. وزلزلتني جنود مصر .. وقسّمتني صناديق السودان .. وقصفتني طائرات سوريا .. وأسمعت كلمات المتنبي أذني : " على قدر أهل العزم تأتي العزائم " .. فهل أطيق هذا القدر تُرى يا أبا الطيب ؟

تسلل من رأسي الشباب .. في أواخر آب .. ولي في هذه الفيافي شهوراً من الضيم .. أشرب من الدموع .. وأمرض وأجوع .. آكل من فُتات السلاطين .. وأفعل أفعال الشياطين .. فأسكت عن الحق , أو أموت .. وقتها أعلم فائدة السكوت , وأعود لنفسي المكسورة .. ولأحشائي المعصورة .. ولأفكاري المأسورة .. لا أستطيع فك قيدها .. ها أنا ذا مُقيد فكيف أفك القيود .. وأبكي .. وأعود .. للبحر الذي قطعت طريقي من أجله .. لسكون القلب وحلّه .. لامتداد الدهر وخلوده .. لذهول العقل وشروده .. لخير الأولى .. وعجز المقولة .. وسحر الأنفاس .. وانقلاب الأساس .. واعتزال الناس .. إلى إلهام الشعراء .. ونهاية الأمراء .. وأسر القلوب .. وأسباب الحروب .. إلى العذاب الأجمل .. وخطيئة الإنسان الأول .. ودوار الرأس .. وسُكر الكأس .. وعشق العين .. وترك الدين .. وقضية الروايات .. ولُب الحكايات .. واستجلاب الهموم .. واستصغار العلوم .. واستنفار الجيوش .. وزلزلة العروش .. وفقر الحالة .. وإمكانية المحالة .. ونزهة الرحّالة .. وجمال المساء .. إلى عشق النساء.

وانقضت أسباب السبابة .. في قلب بابة .. وذهب أملي في اغتفار ذللي .. واختفى السراب .. وبقيت كالغُراب .. عالقٌ في منتصف الدنيا .. لا أطول شرقها بسكنه وعذبه .. ولا أطول غربها بجماله وكذبه .. وجلست أرثي لحالي .. وأرسل سؤالي .. إلى أفق ممتد امتداد الخيال .. وأغشى عليَّ وأمسكتني الحبال .. ونظرتُ أسفلي ففقدتُ أوّلي .. ونظرتُ فوقي ففقدتُ نطقي ! وظللتُ حائراً فترة فيمَ أنا فيه .. وانتفضتُ وصرخت كالسفيه .. أين أنا بحق السماء ؟ .. لا رد .. حسناً , أين أنا بحق الأرض ؟ .. لا رجاء .. فتقبلتُ الواقع الجديد حتى أرى .. لعلني مشيت حتى المُشترى ! وإذا كان , فما هذا المكان ؟ .. هذا لا يُشير إلى كوكب .. ظلامٌ ظلامٌ ظلام .. هل بلغتَ أطراف السما أم أصابني العمى ؟ .. " أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي " .. ما هذا الصوت ؟ لماذا أشعر وكأنني أهبط ؟ إذا مُت فالروح تصعد إلى أعلى ! ومن أدراهم ؟ هل ماتوا قبل ذلك ؟ هل أموت ؟ سكوتٌ سكوتٌ سكوت .. ابتعدتُ عن المَجمَع أم أنني لا أسمع ؟ .. " وأسَمَعَت كلماتي من به صمم " .. من أنت ؟
انجلت الرؤية فجأة حتى كِدتُ أفقد بَصَري .. وتذكرتُ جواهر ابن نباتة المصري :

" شجونٌ نحوها العشاقُ فاؤا .. وصبّ ما لهُ في الصبر راء
وصحبٌ إن غروا بملام مثلي .. فربَّ أصاحبٍ بالإثم باؤا
وعينٌ دمعها في الحبِّ طهرٌ  .. كأن دموع عيني بيرُ حاء
ولاحٍ ما له هاء وميمٌ.. له من صبوتي ميم وهاء
ومثلي ما لعشقتهِ هدوّ .. يرامُ ولا لسلوتهِ اهتداء
كأن الحبَّ دائرة ٌ بقلبي .. فحيثُ الانتهاء الابتداء
بروحي جيرة رحلوا بقلبٍ .. أحبَّ وأحسنوا فيما أساؤا
بهم أيامُ عيشي والليالي .. هي الغلمانُ كانت والإماء
تولى من جمالهم ربيعٌ .. فجاء بنوء أجفاني الشتاء
وبث صبابتي إنسان عيني.. فيا عجباً وفي الفم منه ماء
على خدي حميم من دموعي .. صديق إن دنوا ونأوا سواء
فأبكي حسرة َ حيثُ التنائي .. وأبكي فرحة ً حيثُ اللقاء "

فبكيتُ وعلمتُ أنني ها أنا ذا تدور بي الدوائر مرة أخرى حتى أحل في بئر الجنون .. ألتمس ذَهَبه .. أذوب بأدبه .. أسير بكلامه .. أحيا بأحلامه .. أستحيل متنبياً يعتز ويبني بيوتاً من الحكمة والفخر .. وأصبح عنتراً يسجل لعشيقته آيات النصر .. وأصير نوّاساً يتغنى بالخمر .. أقرأ سكناً وغذاءاً وماء .. أصلي في الأرض وفرعي في السماء .. هوائي حروفٌ نتنفسهاً بأنوف العزة ونردها بألسنة البلاغة بيوتاً شمّاء تطرب من دخلها وتُسقي من نهلها , وبينما ألملم شتات عقلي الغائب , وجسدي المتثائب .. وقع نظري على جماعة من الناس يلتفون حول شيخٍ ضرب فيه الشيب وأنارت وجهه الحكمة ويستمعون بإنصات , فاستئذنتُ الجلوس .. فنظر لي الشيخ نظرة مستربية وقال : يا بني , انتظر .. هل أنتَ منّا ؟ فقُلت : ومن أنتم ؟ فقال : من يحفظون الصداقة والموّدة في قلوبهم ولا يلقونها على جانب الطريق . فقُلت : أنا كذلك . فقال : تفضّل أيها الصديق .

أما بعد يا أبنائي وإخوتي الكرام .. فإن الدُنيا دار غرور .. تغر صاحبها وتأخذه عن طيبات القيم .. المودة المودة .. لا تنسوا أخاً .. لا تهملوا صديقاً .. لا تهتموا بسفاسف الأمور .. واليوم أحبتي سنُكمل ما بدأناه .. وأعلم - كما تعلمون - أن جلستنا هذه قد تأخرت للأسباب نفسها .. ولعلنا الآن بصدد التعريف بجزءٍ آخر من الأصدقاء .. فمن يحل كل المسألة هذه المرّة .. تتغمده المسرّة .. وتحيطه الغبطة .. وتصاحبه الفرحة والتمنّيات الهائلة .. وإليكُم الأسئلة :

أولهم طويل العماد .. شرس الفؤاد .. مسلّح , ثائر .. نسره طائر
ثانيهم يؤمن بفريقه .. ويُضحِك رفيقُه .. أبيض الكساء .. سيظلون أوفياء
ثالثهم يسبح ويطير .. يتحولُ لمُنير .. يُفكر " سيكا " .. يرقُص مع المزّيكا
رابعهم مثل ثالثهم في المدرسة والرقصة .. ملامحه تشبه ملامح الشرق الأقصى .. أفريقي الفَريق .. هادئ .. رقيق
خامسهم يحلق بعيداً عن عالمنا .. لا نعلمه , ويعلمنا .. لا يظهر .. ولا يهتم .. يجري وصديقه .. مجرى الدم
سادسهم صغير بثقله كبير بعقله .. في الثورة من الأحباب .. لا يخشى ولا يهاب
سابعهم عميق العقل والنسيج .. من بلاد النرويج .. يجيد السرعة في الأداء .. يقول المجد للشهداء
ثامنهم طويل طول الإطالة .. مَهيب الإطلالة .. ربّى لحيته وتاب .. واتخّذ صديقاً التاب

أما بعد إخوتي وأحبتي في الله .. فقد سردتُ هذا الجزء من شخصيات الرواية الأبدية .. و أحضرت الهدية .. فمن حلها نال .

وانفكّت الحبال .. فلا شيخ ولا أصدقاء .. ولا بئر ولا شعراء .. ووجدتُ نفسي في آخر تموز .. من دون العجوز .. كما ذهبتُ من البيت كما عُدت أمامه الآن .. لا أعلم من أعادني وكيف حدث وماذا حدث .. إلا أنني لستُ أنا .. ليس ذات العقل ولا ذات الروح .. تغيرت بي الأطوار ورأيت العجائب والأسحار .. وطُفت بلاداً من القصص والأساطير .. فوجَدتَني أسبح , ووجَدْتني أطير .. وها أنا أمام بيتي الصغير .. أدلف الردهة المؤدية إلى غرفة النوم .. لأنام .. وأحلم .. مجدداً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق