ما هذا الظلام التام ؟ كيف تغيّر كل شئ في ثانية ؟ لماذا لم أعُد هُناك ؟ إذا صادف وقابلتُم قاتلي , اسألوه : لماذا قتلني .
كُنتُ مسغرقاً في نومي فجر هذا اليوم , الخميس الثامن والعشرين من نوفمبر 2013 . ورأيتُ حلماً لم أفهمه , رأيت نفسي على قمّة جبلٍ كبير , وكان معي أمي وأصدقائي , هؤلاء الذين أحبهم ويحبونني في كلية الهندسة التي أتعلم بها , ويبدو أننا قد اقتربنا من حافة الجبل بدون أن نستطيع دفع ذلك , كنا نقترب شيئاً فشيئاً , لم يرَ أحدٌ من رفاقي ما رأيت , كانوا منهمكين في حياتهم وكأننا نعيش يوماً عادياً , أمي تبتسم لي وتسألني بعينيها إذا كنت أريد شئ , وتسعى لتضفي البهجة والراحة على من حولها , وأصدقائي يمرحون , والقليل منهم ينزوي في آخر الجماعة يستذكر بعض الدروس , كُنتُ أتعجب من أفعالهم تلك ونحنُ على رأس الجبل , وكُنّا نقترب , لم يعبأ أحد . اقتربت الحافة منّا شيئاً فشيئاً , وكُنتُ أنا في أول الجماعة من ناحية الإنهيار , وعندما أدركت أن القدر يقودني إلى هذا المصير , وعندما رأيتُ في عيونهم البهجة والانسجام .. انسجمت بدوري مع الأشياء , ونظرتُ خلفي , لأمي , ولأصدقائي من كليتنا الصغيرة , وابتسمت . حينها تعثرت قدماي , وذهبت الأرض من تحتي , وبدلاً من أن أهوى إلى قاع الوادي مستسلماً للأمر , وجدتُ نفسي بنفس القوة الدافعة التي لا أعلمها .. أصعد إلى السماء .. رأيتُ السماء .
حينها سمعتُ آذان الفجر يضفي على منطقتنا الصغيرة هالة من الحميمية والدفء لا أستطيع التعبيرُ عنها , توضأت أمي ودخلت لتوقظني لأصلي , لم أخبرها بأنني رأيتُ السماء في ذلك اليوم , ومثل كل الأيام .. مرّت ساعات الصباح , وتناولت فطوري معها .. لم أكن أعلم أنها آخر مرّة , وعندما أوصلتني إلى الباب , أوصتني - ككل يوم - ( خلّي بالَك من نفسك يابني , ربنا يوفقك ويجعل لك في كل خطوة سلام , عاملالك النهاردة الأكلة اللي انتَ نفسك فيها , ركز يا واد , متتأخرش )
لماذا تأخرت على أمي يومها ؟
ركبتُ كما أركب كل يوم ووصلت الكلية متأخراً قليلاً , كان الطريق يومها مزدحماً كعادته في أيام الخميس , ولكني دخلت , لم أكن أستوعب هذه المادّة جيداً , ولكنها ككل المواد التي أدرسها في هذه الكلية , تحتاج إلى وقت لاستيعابها جيداً وفهمها , وأخرجتُ أدواتي وكتبت . انتهت المحاضرة الأولى وكانت المحاضرة الثانية امتحان نصف الفصل الدراسي الأول ( Mid-Term ) , كُنتُ جاهزاً لاجتياز الاختبار , وأظن أنني وُفقت بعض الشئ , لولا تلك المسألة الغريبة . وكانت المحاضرة الثالثة في مادة أخرى لا أظنها مهمة , لم يحضرها الكثير من الفرقة , لكنني حضرت .
عندما خرجتُ إلى فناء كلية الهندسة , لم أفهم بالضبط ما الذي يحدُث , واختفى صديقاي من أمامي في هذه الفوضى .. دققت قليلاً : كان هُناك بعض طلبة الجامعة يتجمعون أمام الباب الرئيسي لجامعة القاهرة ويهتفون ضد النظام الحالي كما فهِمت , لم أكن لأهتم بذلك , كُنتُ أحلم بأن أحقق شيئاً في مجالي , حيثُ أدرس في قسم Power , وقد كُنتُ بشهادة زملائي متفوقاً بعض الشئ في الدراسة , مما يفسر لهم لماذا أنا لست مهتماً بأي شئ سوى ما أطمح إليه وما تحلُم به أمي ليل نهار , وفجأة سمعنا أصواتاً مدوياً , قال أحدهم بصوت سمعته ( بيضربوا قنابل غاز ) , فهمت أنهم يهاجمون تلك الوقفة بقنابل الغاز , لكن لماذا نستنشق رائحة الغاز من هُنا ؟ هل وصلت تلك المظاهرات إلى هنا ؟ أم وصلت قوات الأمن بالخطأ ؟ أم أن الغاز هو الذي ينتشر في كل هذه المساحة من باب الجامعة إلى داخل كليتنا ؟ دققتُ ثانياً وتبينت الأمر التالي .. المسافة بين باب الجامعة وباب كليتنا لم تكن بالقدر الذي تصورته , فعندما كنا نشرئب برؤوسنا لنتابع الأمور كنا نرى الطلاب على الجانب الآخر من الطريق يميناً , وقد أمطرتهم قوات الأمن بهذا الوابل من قنابل الغاز , ورأيتهم يهرعون إلى داخل حرم الجامعة , عندها تضامن الطلاب الذين وقفوا يتابعون الأمر من ناحية باب كلية الهندسة , تضامنوا مع الطلاب الأُخر الذين تم ضربهم من عشر ثواني فقط , ويبدو أنهم يهتفون ( الداخلية بلطجية ) , بل , ويخرجون إلى الطريق , الطريق الذي امتلأ بالجنود ومدرعات الأمن .
لم أتحرك من هذه الساحة منذ خروجي , كنتُ أبحث عن صديقاي اللذَين اختفوا فجأة , هل ذهبوا خارجاً ؟ هل تاهوا عن نظري في وسط التلاطُم والجَري ؟ كُنت هُناك , أشُم رائحة الغاز لأول مرة منذُ علمت أن هناك وسيلة كهذه لدفع المتظاهرين على الصمت , يا له من إحساس كريه , تتسلل أولاً قطرات الغاز لتداعب أنفك , ثم تتخلل داخلك حتى تصبح عاجزاً عن التنفس لفترة من الوقت , وفي هذا تخترق عينك وتحتل خلايا وجهك فتُصبح وقتها عاجزاً عن كل شئ , إلا لو أسرعت واختبأت بعيداً عن هذا الخطر , كُنتُ أفتدي الغاز معهم , وأعود لأبحث , ولأرى ما الذي يحدث عند الباب .
عندما لاحظت قوات الأمن انسلال بعض الطلاب من ناحية كليتنا وترديدهم الهتاف والمسير باتجاه الحدث , بدا أنهم ينظرون إلينا بأعين الارتياب , كُنتُم في ظهورنا الآن ونحن ندفعهم , هل أنتُم معهم ؟ , كانت عيونهم تقول ذلك , وبدأت الدراما عندما ازداد تحرك الطلاب إلى الأمام وسط الطريق , فجرى نحوهم حوالي عشرة من جنود الأمن بالعُصي والأسلحة السوداء المُشهرة نحوهم , عندها تحرك الإحساس بالغضب لدى مجموعة أخرى من الطلاب , كيف يقدمون على إرهاب طلبة كلية الهندسة ؟ كيف نخاف من هؤلاء الجنود ؟ فجرى الطلاب نحو الجنود في خطوة دفاعية وكأنهم يقولون ( اذهبوا من هنا , لن ترهبونا , ولن تقربوا هذا الباب ) , وكانت مدرعة الغاز تصول وتجول في الطريق أمام أعيننا مطلقة القنابل على طلاب الجامعة , وعندما لمحنا هذا الذي يدخن السجائر ويُصيب الطلاب فوق المدرعة , ألقى إلينا بتحيته , التي اصطدمت بمبنى الإدارة ووقعت في فناء كلية الهندسة , وراء المسلة , في هذا الوقت استشاط الطلاب غضباً , كيف يجرؤ هذا الغبي أن يطلق قنابل الغاز داخل حرم كلية الهندسة !؟ كيف يحدث ذلك ؟ لابد أن للإدارة حديثٌ آخر , فقد لن تمر هذه المواقف على خير , ولن يسلم أحد من العقاب , بأي حق تعتدي قوات الأمن على طُلّاب أثناء طلبهم للعلم وفي عُقر دارهم ودار العلم , جُنِنت , كما جُن الطلاب , وازدادوا هتافاً , وخرجوا بعدد أكبر ليهتفوا في وجوههم , عندها .. انضمت مجموعة أخرى من الجنود إلى الجنود السابقين , وظهر فيهم الضُبّاط والجنود المخيفون ذوي الأقنعة السوداء الضخمة , شاهري العُصي والأسلحة نحونا بكل صراحة الآن , وعندما دخلنا جميعاً من الفزع وعدم التصديق , أُغلق الباب , ويبدو أنهم لم يكتفوا , فقد ظلوا يقتربون نحونا ونحو الباب حتى بعد أن صار الباب بيننا وبينهم , وهتف الطُلّاب بعد أن اقتربوا مجدداً من الباب حتى يذهبوا ويحلّوا عن سمانا وعن أرضنا , ( الداخلية بلطجية ) , فاستشاطوا غضباً , واقتربوا أكثر , ولكن هذه المرة , كانوا يفشّون غيظهم بالأسلحة , فزع كل من كان في الفناء وقتها , بدا للجميع الآن أن شيئاً غريباً يحدث , وأن الحقائق قُلِبَت بشكلٍ ما , وأن الأمور لا تسير كما يتصور الناس من الإعتيادية , فزعنا وهربنا من وجوههم وأسلحتهم المدببة , كلٌ في اتجاه , لا أعلم لماذا تذكرتُ أمي وقتها تحديداً , ولا أعلم كم قضيت في هذه الثانية أتمنى من الله أن أسمع صوتها , مرة أخرى , قبل أن أموت .