الثلاثاء، 11 مارس 2014

أنا والثورة (الكتاب الأول) : الجزء الخامس

إذا عبّرنا عن الأفكار بالكلام فَبِم نُعبّر عن الأحزان بغير الدموع ؟ نرى الجرح عميقاً ولكن لا نستطيع أن ننبش تفاصيله , ننسى , نذكر , نتناسى , نتذكّر .

الزمان : السبت 28 يناير 2012
المكان : ستاد القاهرة
الهتاف : يسقط يسقط حُكم العسكر .

الزمان : الأربعاء 1 فبراير 2012
المكان : ستاد بورسعيد
الحدث : مذبحة بورسعيد .

لا أذكُر تلك الفترة بين الأربعاء 25 يناير 2012 والأربعاء 1 فبراير 2012 , كان اليوم عادياً في أوله , وكُنّا متحمسين لذلك الدوري الذي عاد بعد طول غياب إثر أحداث الثورة , أحكي من موقعي هذا , من زاويتي الضئيلة من هذا البلد الوسيع أرى .. هذه شهادتي المشوبة بالتأثر والنسيان , فاعذروني واتركوني أكمِل .

كنتُ ألاحظ من قبل المباراة ببضعة أيام شيئاً من التوتر المفاجئ الذي علا في الأفق كلما اقتربنا .. حتى أنني سمعت ليلتها أغنية تقول " لو جاي على بورسعيد , إكتب لاُمك وصية , عشان هتموت أكيد , وملكش أي دية " .. ماذا تقول ؟ .. ولماذا ؟ .. ثُمَّ هل كان تحذيراً أم تهديداً ؟ كل هذا وأنا لا أفهم كُنه التوتر ولا لماذا بلغ هذه الدرجات .. وفي اليوم التالي مع بدء المباراة رأينا أيضاً هذه الألعاب النارية التي تُطلَق على اللاعبين أثناء المِران ورأينا هؤلاء الصبية الذين يجرون ناحية مدرج جماهير الأهلي بالألعاب والإشارات في مختلف الأجزاء من المباراة , ثم رأينا ..... ماذا ؟؟

صفّر الحَكَم ورأينا الآلاف من جماهير المصري ينزلون أرض الملعب , وكأن الصافرة كانت هي الإشارة بالنزول , وازداد العدد , هل يحتفلون ؟ هل يعترضون على النتيجة ؟ كيف وهُم الغالبون بالثلاثة هذه المرة ؟ إلى أين يذهبوا إذاً .. لا شئ في هذه الناحية سوى مدرج جماهير الأهلي .. غطى كل هذا على حُزننا على النتيجة وعدم جدوى المدرب .. وانتقل كل شئ فجأة إلى هذا الذي يحدُث .. هناك بالفعل شئ يحدُث الآن .. وهذه الجموع الخضراء والسوداء تجتاز الأمن أمام الشاشات وتلاحق الجموع الحمراء المذهولة .. كُنتُ وقتها وأسرتي في الغرفة الرئيسية نتابع الصورة بتعليق أحمد شوبير الذي ندد بشغب الجماهير المتكرر .. ولكنه لم يكن شغباً هذه المرة .. وردت الأنباء عن مقتل أحد مشجعي النادي الأهلي ! هل وصلت الأمور إلى القتل ؟! كيف يحدث ذلك ؟! ومن المسئول عن هذه المهزلة ؟! وكيف نقول لأمه أنه ذهب ليتابع مباراة ناديه فقُتل ؟! .. ماذا ؟ اثنين ؟ يا إلهي ماذا يحدُث هناك ؟! كانت الصدمة تزداد كلما سمعنا رقماً جديداً .. كُنا لازلنا في عقولنا عندما سمعنا خبر القتيل الخامس والقتيل السابع والقتيل العاشر .. لكن أن تتضاعف الأرقام فيبلغنا خبر الخامس والعشرين ثم السابع والثلاثين ثم التاسع والأربعين؟! فقد كان هذا هو الجنون بذاته ؟ كيف أجد مسمياً لما يحدث ؟ كانت هُنا مُباراة بين فريقي كُرة .. ثُمَّ ؟ عُقِدَت كل الألسنة . طارت كل العقول . بلغت القلوب الحناجر . وصل العويل أفواه الرجال . دب الغضب بقلوب الشباب . سيطرت على كل شئ قلة الحيلة وقلة الفهم وعدم القدرة على مواصلة التفكير . الأعداد تزيد . ستون الآن . شوبير يصرُخ . الصفحة الرئيسية تسوّد . الناس تُجَنّ ولا تعرف ماذا تقول . اختفت الأسباب والنتائج , وابتسم الواقع القبيح وقال : ها أنا ذا , أروني كيف توقفوني . اثنان وسبعون شهيداً . عاجل : قوات الأمن تسيطر على الموقف وجماهير الأهلي في طريق العودة وأرواح الشُهداء لا تعود .

هل يستطيع الكلام مهما بلُغَت بلاغته أن يصف ؟ جلست مصر في هذه الليلة وفوق صدرها هذا الجبل الثقيل .. لا يتحرك .. لا يتزحزح .. الوَرد يُنتزع من البساتين والخريف الأحمق يسود .. والشباب يموت .. هذا الذي لم يكن يأمل بأكثر من بلدٍ ترعى مصالحه .. لا .. تؤيد حريته .. لا .. تحافظ على حقوقه .. لا .. تُقَدّر قيمته كإنسانٍ يستحق أن يعيش .

وقال المُشير طنطاوي بعدئذ : " ومصر ماشية في الاتجاه , واحنا ماشيين في الاتجاه اللي احنا مخططين ليه , ومش حاجة زي دي اللي هي هتوقع مصر .. إن شاء الله الشعب.. بس احنا عايزين الشعب كله يشترك في حاجات زي دي .. الشعب ميقعدش , ماهو اللي عمل كدة ماهو أفراد من الشعب المصري .. الشعب المصري ساكت عليهم ليه ؟!  كله يشترك .. لازم .. لكن مصر إن شاء الله لن ينال منها أحد , وهنستمر في الطريق , وهنعدي هذه المرحلة اللي حصلت , ودي حوادث ممكن تحصل في أي مكان في العالم , لكن احنا إن شاء الله مش هنسيب اللي عمل كدة , أو اللي هُما ورا هذه الأعمال .. ودي مش هتأثر في مصر , ولا أمن مصر .. أمن مصر إن شاء الله سليم وهيستمر إن شاء الله وكل حاجة هتبقى عال .. - والمُتوفين؟ - المتوفيين هنشوف ..احم.. هنبحث مواقفهم , وإن شاء الله هنديهم التعويضات لأهاليهم "

لماذا يحكُمنا الحِمقى ؟

في هذه الآونة كان أهالي المشجعين والمتضامنين معهم ينتظرونهم بالآلاف على رصيف محطة مصر .. ينتظرون أبنائهم أحياءاً أو ميتين , عَلَت الهُتافات , واسودّت الوجوه , واستُلِمَت الجُثث , وانهمرت الدموع , ونامت مصر كما لم تنم من قبل .

ليظل هذا التاريخ الأول من فبراير من السنة الثانية عشر بعد الألفي سنة من ميلاد المَسيح , تاريخاً لن يُنسى , ونقطةً حمراء لن تُزال , وصاعقةً لن يذهب أثرها .. ويوماً مشئوماً في تاريخ البشرية .

كأنه كان حُلماً بغيضاً اخترق النفوس ؟ هل سنصدق ما حدث بالبارحة بهذا اللين ؟ ما حدث بالبارحة ؟ كانت الوجوه كلها مُكفهرة بالصمت , والشوارع باردةً حد الوَحشة , والطيور صامتةً لا تُغنّي , والأجساد محاطةً بالسواد , والسماء ملبدةً بالغيوم , ومن أطراف السماء يبتسم لنا الشُهَداء .

محمود الغندور - محمود سليمان - كريم جونيور - اسلام علوان - أحمد يوسف - مصطفي عصام - سيد جودة - محمد رشدى - أنس محي - كريم خزام - خالد عمر - يوسف حمادة - مصطفي جمال - عبد الرحمن فتحى - محمد عبدالله - أحمد فوزي - مصطفي عبود - إبراهيم حلمي - محمد مصطفى - أحمد وجيه - عمر عمرو - محمود صابر - مصطفي الرفاعي - محمد سري - أمجد السيد - زياد جمال الدين - مصطفى متولي - حسين محمد السيد - محمد خاطر - حسام الدين السيد - محمد علي - أحمد عبدالحميد - مصطفى السعيد - خيري فتحي - حسن فهمي - محمد سمير - العربي كمال - مهاب صالح - أحمد زكريا - محمد أشرف - أسامة محمد مصطفى - مصطفى محمد يوسف - اسلام أحمد - محمد فرغلي - أحمد اسماعيل - عمر علي - مصطفى نصر - محمد عبدالنبي - أحمد محمد صالح - كريم المليجي - محمد جمال - اسلام حسن - سعد جمال - عمر عطا - أحمد عزت - محمد حسين - حامد فتحي - أحمد طه  - محمد الشوربجي - أيمن هيبة - ممدوح البنداري - باسم الدسوقي - محمد خالد - كريم عبدالله - محمد محمود - أحمد الشابوري - محمود سلامة - محمد محروس - أحمد أسامة - سليمان أحمد - محمد ناصر - سعيد محمد - أسامة أحمد - محمد مصطفي كاريكا

" علمونا معنى الإنتماء .. كل المجد للشُهَداء " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق