الثلاثاء، 27 مارس 2018

تأملات (6) : المرأة وكروت اللعب والدهشة القاتلة


في المجتمع الذكوري، وجود المرأة بيبقى وجود مدهش: وجود مثير للدهشة. مش بس دورها، لكن وجودها الحسي نفسه، ممثلا في ظهورها بشكلها الطبيعي. عشان كدة بيندهش لو شاف أنثى بشعرها، بيندهش لو شاف أنثى في العربيات المختلطة في المترو، لإن وجودها لازم يكون جوة الهامش بتاعها في عربيات السيدات، حيث لا تقتل الدهشة أحد. بيندهش لو شاف بنت قاعدة على القهوة رغم انها بقت بيته التاني. بيندهش لو شاف بنت بتشرب سجاير رغم ان صدره اسود من الدخان. بيندهش لو شاف بنت بتشتم رغم ان لسانه اتوسخ من الشتيمة. بيندهش لو شاف بنت أصلا وبيفضل باصصلها ككائن غريب لابد من التعرف على ملامحه جيدا وتفحص كل شبر من جسمه.

الذكر عشان يتعامل مع الموقف ويحد من الدهشة اللي أنتجها وجود المرأة داخل مجتمعه الذكوري، بيلجأ لإنه يدخل وجود المرأة داخل وجوده الشخصي، وبالتالي على المدى الطويل هيتم الحفاظ على وجود المجتمع الذكوري من الدهشة المميتة. الذكر في ده بيحاول يستغل الوجود الإضافي للمرأة داخل وجوده بتعزيز وجوده ده، كجزء من المجتمع الذكوري، سواء بإظهار القدرة على التحكم فيها، أو باختراق المرأة التابعة لذكر آخر، وبالتالي اختراق وجوده. فهنلاقي إن الأب الذكوري بيفخر ببنته اللي ماشافتش الشارع، والشاب الذكوري بيتباهى عند صحابه بالبنات اللي موقعهم وممشيهم وراه، وهنلاقي على الجانب الآخر أغلب السباب الموجه بين الذكور وبعضهم بيكون بالإتيان على ذكر المرأة وأعضاءها والتحقير من شأنها، اللي بينصرف للتحقير من شأن الذكر نفسه، القابل للاختراق من خلال أعضاء أمه أو شرف اخواته.

المرأة في ظل المجتمع ده بتلجأ لمساحة الاختيار الوحيدة المتاحة لديها، لإن من غير التحكم ده وجودها داخل المجتمع الذكوري معرض لكافة انواع التهديدات، بتواطؤ من كامل المجتمع. المساحة دي بتكون اختيار مين اللي هيتحكم. هتختار الأب اللي عمره ما هيئذي ولا الحبيب اللي هيديها حاجات جديدة مش عند الأب؟ هتختار الظابط ولا المهندس ولا التاجر ولا المحامي المتقدمين لطلب "إيديها"؟ كل واحد ليه فكر مختلف وطريقة تحكم مختلفة. هتختار الإسلامي المتدين الخلوق اللي هتطمئن للدنيا والآخرة وهي معاه ولا هتختار العسكري القوي اللي هيحميها وياخدها تحت دراعه من اللي عاوزين يهددوها أو "يقيدوها"؟ لكن أي تفضيل بيكون تفضيل لقيد على آخر. أي اختيار المرأة بتختاره في المساحة دي بيحدده تكوينها الشخصي، والخروج من مساحة الاختيار دي مابيكونش موجود إلا قليلا.

المرأة بتتربى في المجتمع الذكوري على إنها ظاهرة. ظاهرة متسقة مع طبيعتها المثيرة للدهشة. ولذلك بيكون الاحتفاء بيها داخل المجتمع على سبيل الاحتفال. فهنلاقي فيه اندهاش وبهجة من مشاركة المرأة المصرية في العملية الانتخابية، وفيه عام للمرأة، يتبعه عام لذوي الاحتياجات الخاصة، وفيه احتفاء بنسبة تمثيل المرأة في الحكومة والبرلمان، وفيه تكريم للأمهات المثالية في عيد للأم. مع إن كل الحاجات دي على الناحية الأخرى بيقوم بيها الذكر، الفرق إن وجود الذكر في المجتمع وجود طبيعي، إنما وجود المرأة وجود مثير للدهشة دائما. المرأة بتتربى على إن مالهاش في النهاية غير بيتها وجوزها، على إنها تحب اللي يقولها بعد دهشته انتي ماينفعش تشتغلي انتي تقعدي في بيتك زي الأميرة وماتحمليش هم حاجة. بيتها بيكون هو ده مجتمعها اللي مسموحلها التأثير فيه، وفي المقابل الذكر بيسيبلها المساحة دي إمعانا في التفريق بين الدور الخارجي اللي هو منوط بيه، والدور الداخلي اللي هي تتحمله. عشان كدة بتتحول الأم في مجتمعاتنا لبطلة وليها عيد أم بينما مفيش عيد أب زي ما موجود في بعض المجتمعات، ولا فيه الاحتفاء المبالغ فيه بدور الأم، لإن الأم - زي الأب بالظبط - دورها متقسم عالمجتمع والحياة الشخصية، ومابتتحولش هي نفسها لجزء من الحياة الشخصية لكيان تاني، عشان كدة مش بيكون فيه داعي ملح للاحتفاء بدورها في البيت والتربية ودعم الرجل أينما كان، ولا بيكون فيه داعي للاحتفال (والاندهاش) بتمثيلها في الوظائف السياسية وغير السياسية، لإن لو ليها دور فعلا مش هيطلع الذكر كل شوية يقولها انا مبسوط ان انتي جنبي ومعايا، لإن المجال العام مش مجال للحب والمؤانسة، لكنه مجال للقيام بأدوار ووظائف محددة تتطلبها مصلحة الأفراد في المجتمع. ومن نوادر دور المرأة كما يتصور جزء لا يستهان به من الوعي الجمعي، إعلان كريم عبدالعزيز اللي بيقول فيه اللي يساعد واللي يشيل واللي يعمل، وطبعا الستات هتزغرط. وحسين الجسمي وهو بيقول عن المشاركة في الانتخابات "اللمة دي لمة رجال" اختصر كلام كتير ممكن يتقال. ومن مظاهر الدهشة غبطة حكيم الكبيرة وهو بيقول "الست دي تتشال عالراس" عشان شاركت. ما هي لمة رجال لكن ست؟! أحلى ست دي ولا ايه؟

المجتمع الذكوري بيتربى على إن المرأة جزء منه، بس ماينفعش تبقى جزء مستقل، لإنها لما تكون جزء مستقل هتبقى مستباحة من بقية الذكور الذكوريين اللي هيسعوا دائما للسيطرة عليها، علشان كدة بتنشأ سلطة ذكورية عمومية هي المتحكمة في وضع المرأة ككل، السلطة دي عشان تحمي المرأة (التابعة كفكرة عامة) بتغطيها بطبقات، تحجبها عن دهشة الذكور، وبالتالي عن محاولة السيطرة عليها، وهي طبقات من الوجود اللي الذكر بيتمتع بيه، بتبدأ تتدرج من عدم النزول من البيت، عدم الاندماج في المجتمع، عدم الكلام مع الغرباء، عدم الصوت العالي، عدم الضحك، لبس يغطي كل شئ، لبس يظهر الوجه والكفين، لبس طبيعي، وصول البيت بالليل، الدخول في علاقات، شرب الدخان، إلى آخره. الطبقات دي هي اللي بتحمي المرأة من تصور المجتمع الذكوري عنها، بس هي من الهشاشة بحيث إن أقل حاجة بتصدر منها ممكن تأثر على التصور ده، وتوقعه زي أحجار الدومينو، وتحطم كل طبقاتها الهشة وتعريها في عيون المجتمع. عشان كدة الراجل يلعب بديله. لكن البنت تبقى ماشية على حل شعرها. يعني الراجل بالنسبة له أي حاجة ممكن تتعرف في إطار اللعب، إنما البنت كل همسة بحساب عسير. عشان كدة لما علياء المهدي اتحدت السلطة الذكورية واشتركت في وقفة نسوية عارية في أوروبا أسقطوا جنسيتها، يعني خرجوها من اعتراف المجتمع أصلا. وكذلك لما بدا لحكام المجتمع إن مشروع ليلى بتساهم في انتشار أفكار ممكن تهدد البنية الذكورية للمجتمع (الذكر فوق، الأنثى تحت) وتلخبط المفاهيم دي عند الناس وبالتالي تلفت انتباههم لتكويناتها أصلا، وقفوا حفلاتها في مصر.

وده بيدفعنا للإشارة لمكانة المرأة داخل العقلية الذكورية، ككيان مفعول به، ككيان ضعيف ككيان ناقص "عقل ودين"، وبالتالي ماينفعش المجتمع الذكوري يتشابه معه في أي حاجة. "الواد ده شعره طويل شكله خول"، "مفيش راجل بيعيط"، "انشف خليك راجل". فلما يتم ذم الرجل بيتم ذمه بتشبيهه بالمرأة أو ابتزازه بالتصور ده، بينما لما يتم مدح المرأة بيتم مدحها بالرجل، "ست بس بميت راجل". وعلى مستوى أبعد بيتم تعظيم القوة المادية كشكل من أشكال القوة الذكورية، فلما يتحط العسكري المسلح قدام المدني أبو شعر طويل هيتم احترام العسكري المسلح أكتر من المدني أبو شعر طويل بغض النظر عن اللي جواهم. فعلى المدى البعيد بيتم تقديس القوة في المجتمع أيا كان شكلها، وإسناد الضعف لأي شئ آخر خارج قيم المجتمع الذكوري.

في السياسة زي في المجتمع، بيتم استخدام المرأة يإما لتعزيز قوة الذكر الأول من خلال إظهار تأييده منها أو لاختراق الذكر الآخر باختراق المرأة التابعة له. فمن ناحية هنلاقيها ماشية في القسم الخاص بالسيدات المتشحات بالسواد في المظاهرة ورا الرجالة ضد الانقلاب وبتهتف للنخوة والشريعة والدم. ومن ناحية تانية هنلاقيها هي أكثر المتحمسين لقوة البدلة العسكرية وبتهتف بحب القائد البطل. بس من وجهة نظر منافسيهم هنلاقي انهن في الأول بيتقذفوا بجهاد النكاح على الشاشات، وفي التاني بيتقذفوا بالرقص والدياثة على الإنترنت. وبتبقى هي دي صورتهم في عيون الذكوريين من الطرفين.

أنا تفرعت لأفكار كتير وتقريبا كلامي مكنش مترتب كويس إنما انا عاوز الناس عالأقل اللي بتقول ان عندها مبادئ وأفكار ماتنجرفش لمستنقع تحقير المرأة المتبادل حاليا واستخدام صورتها لتشويه الخصوم، لإن بتفكير بسيط وطبقا للمنطق الذكوري المذكور لو عممناه محدش هينجو منه، وهيقولك زعلان من البنات اللي بترقص قدام اللجان، طب وريني كدة البنات اللي بترقص في الحفلات، بغض النظر ان الأولانيين بيتم استغلالهم استغلال مش نضيف وسمعت ان بيتم دفعهم لنقل الصورة دي، وده بيكرس وضع المرأة في المجتمع كظاهرة وككارت محطوط عالترابيزة للي يعرف يزايد عالتاني، طبعا ده على المستوى السياسي، على المستوى الاجتماعي بقى ياريت نراجع تصوراتنا وماننجرفش برضو لتأطير المرأة في جزءها الصغير من اللوحة الذكورية الكئيبة، ونكف عن تقاليد عيد الأم وعيد المرأة وتعالي يا أستاذة هقوملك عشان ماتقفيش وسط الناس وانا الراجل وانتي مسؤولة مني وتعالي عالحرف عشان انتي محمية طبيعية وروحي اركبي عربية الحريم وغطي شعرك وبتعرفي تطبخي ولا لأ وكل الكلام الفاسد ده. ماينفعش نبقى بننزل الشارع كل يوم وبنشوف ونسمع نفس المظاهر ومانطورش أي آلية لفهمها ونفضل بس نرمي انتقاداتنا وأحكامنا وأحيانا شتايمنا وتناقضات مبادئنا على الناس يمين وشمال. أفكارنا ومواقفنا هي اللي هتصنع شكل المجتمع اللي جاي، فياريت نخليه أحسن وأعدل شوية بالأفعال وبالاحترام الحقيقي للكل وبالعدالة مع الجميع كإننا من جنس واحد ونبطل كلام فارغ، أكيد وقتها الدنيا هتبقى أكثر احتمالاً.

الأحد، 25 مارس 2018

رسالة في محاولة الإفلات

ازيك؟ عاملة ايه؟ بقالي كتير مكلمتكيش ايوة، بس ده لا يعني اني مش عايز. لاحظت حاجة بس وكان نفسي اسأل سؤال صغير. انتي ايه اللي عجبك في اخر حاجة كتبتها؟ مش بسأل عشان افتح حوار اكون فيه الفنان الملهم وانتي المشجعة. انا بسأل باستنكار لإنه مش عاجبني اصلا، وكونك شفتيه فده يقلق، وكونه عجبك فده يلخبط. كإني كنت لابس اوحش لبس عندي وانتي قلتيلي ايه الشياكة دي. بس انا على طول لابس اوحش لبس عندي، لإن مفيش غيره اصلا. وفي الكتابة برضو مفيش غيره. وفي كل حاجة مفيش غيره. حاسس بإفلاس، لا لو الناس تجاهلتني يعجبني ولا لو اهتمت يعجبني، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ومفيش حاجة بالتحديد هترضيني غير الصدف الحلوة بما فيها لما مزاجي يروق أو لما اكتب حلو أو لما احب بجد. انا مش سعيد باللي بيحصل بس ده مش معناه ان الحياة وقفت. الحياة مش المفروض تقف عند الحاجات الوحشة. لإن تقريبا كل الحاجات طلعت وحشة والحلو هو الاستثناء واحنا اللي مكناش فاهمين. بس هنفهم امتى؟ الإنسان اللي بنحارب عشانه عشان هو أهلنا هو نفس الإنسان اللي طالع عين أمه في سجون في بلاد مانعرفش ننطق أساميها. ولو ركزنا هنطلع عنصريين في مبادئنا. لو مش هنكمل حياتنا عشان اخواتنا في الدم ومبدأنا سليم يبقى المفروض مانكملش عشان اخواتنا في السلالة. بس ده مش هيحصل وكله هيكمل بخيره الصغير وشره الكتير لحكمة ما. على فكرة ممكن لو لخبطنا الأماكن نطلع احنا أشرار وولاد ستين وسخة كمان، مين عارف؟ ماحنا امبارح كنا بنحب ودلوقتي بنكره، ايه اللي في قلوبنا ماينفعش يتغير؟ انا باكلمك عشان انا حاسس اني المفروض اكون وحش في عينك لإن انا وحش في عيني، ولو المعادلة دي اتكسرت هاضطر اعيد بناء التصور من الأول وانا مافياش حيل ابني صور. اديكي شفتي ازاي خيالي كان فقير من يومين، واضح اني صرفت كل اللي كان متبقي الأيام دي في الكام تدوينة اللي كنت بحاول افهم منها ازاي كل الناس دي وحيدة. يلا مش هعطلك. أشوفك بخير. أنا حتى مش واثق في نص الكلام اللي كتبته هنا، بس مش عاوز ارجعله ولا ارجع في رأيي ومابعتش، اديني عالاقل بحاول اوصل لأقرب حاجة شبهي، بس مش عارف ليه كل مافتكر اني قربت للنهاية اكتشف اني لسة محتاج ابدأ من الأول. من شوية كنت بفكر ان أول قصيدة كتبتها في أول ديوان ليا كانت هي الغلطة اللي أدت لكل التراكمات دي وإني محتاج اعيد تأسيس عالمي من البداية عشان مشاهده ماتتنافرش مع العدسات اللي على عيني. وكان على عيني اكون احسن من كدة، بس يمكن ابقى.. يمكن.

السبت، 17 مارس 2018

الكيفيات (8) : كيف كانت الوحدة من الداخل؟ (3) : في التكثيف والفناء



في الفضاء الهندسي، إذا أردنا تعيين نقطةٍ ما، فإننا نقوم بتعريف قيمها في المستويات الثلاثة التي تشكل الفضاء، أي أنه لكي نقوم بتعريف نقطةٍ ما، فينبغي علينا تعريف ثلاثة قيم تمثل كل قيمة منهم موقعها في أحد هذه المستويات. وإذا أحلنا هذا الأمر إلى الفضاء الإنساني، فقد تتعدد المستويات التي يمكن من خلالها تعريف الناس، بتعريف مواقعهم منها. وإذا كنا قد افترضنا ارتسام الخطوط التي تجمع بعض النقاط من الناس، فإننا لم نفسر لماذا قد تجمع الناس طرقاً بدون أن تجمعهم قلوب، ولماذا قد يحقق الإنسان حل الوحدة بالتغيير ولا يخرج منها، وهذا الطرح هو محاولة للاقتراب.

فنقول إن هذا الخط الذي افترضناه سلفاً سيتشكل بتعيين النقاط التي من مواضيعها هذا الموضوع (الدراسة، العمل، الصداقة، العائلة، الثقافة، السياسة، الفكرة، الفن،...). ولكننا نجد زملاء في الدراسة أو في العمل، وأبناء للأسرة وللعائلة، وأصدقاء في المجموعة وشركاء في الأفكار، تتباين الدرجات بينهم تفضيلاً أو عزوفاً أو بينهما، وقد تصل بالطبع إلى العزوف التام، وبالتالي لن يجمع بين أصحابه (إذا استثنينا الظروف الأخرى) سوى الوحدة. وهنا تعود المشكلة مجدداً.

لماذا نفضل بعض الأصدقاء دون غيرهم؟ نحبهم؟ نعم، ولكن في هذا السياق بالذات، كيف نقوم بتعريف الحب؟ نعود إلى التصور الهندسي من جديد لكي نتمثل المسألة. فإذا كان لدينا خطاً يتكون من عدة نقاط، فكيف تكون العلاقة بين هذه النقاط غير علاقة متوالية؟ أي أنه لا يمكن استكمال هذا التصور بغير معرفة أن هذه النقاط توالي بعضها بعضاً، وبالتالي فبالنسبة لنقطة ما، تختلف المسافات بينها وبين النقاط الأخرى بقدر عددهم، وهنا تُحل المسألة. فهذا الخط الحُر في الفضاء الإنساني المُفترض، يجمع عدد من النقاط عرّفتها قيمها في المستويات الافتراضية المذكورة سلفاً. وبالتالي فكلما اقتربنا من هذه النقطة، نقترب أيضاً من القيم التي تمثلها، وكلما ابتعدنا عنها كذلك، نبتعد عن القيم التي تمثلها. ولذلك يكون من نحكم عليهم بالقرب من قلوبنا، مشتركين معنا في مستويات من التفاهم والتواصل (والتعارف) بكثافة أكبر مما هي مع الآخرين. وكلما زاد هذا الاشتراك، أي كلما قصرت المسافة، أي كلما اقتربت القيم بين النقطتين، كلما تبددت وحدة كل منهما، حتى تنعدم إذا كادا يتلامسان، فيصبحان مرآة لبعضهما البعض، وهنا يحدث ما يقول عنه درويش "ولستُ أنا مَنْ أنا الآن .. إلاَّ إذا التقتِ الاثنتان ِ : أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ .. يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ .. ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا .. عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ .. لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ" (محمود درويش، لاعب النرد). فقد قرن الشاعر بين الذاتين (إذا التقت الاثنتان)، التي لا تتعرف إحداهما إلا بهما، لكي يحل السماوي في الجسدي، وهو الحب. وسنجد كذلك أن هناك حباً صوفياً يتجاوز معاني القرب إلى ما دونها، فيقول الحلاج "عَجِبْتُ منكَ ومنّي .. يا مُنيَةَ المُتمَنّي .. أدنَيْتَني منكَ حتى .. ظَنَنْتُ أنَّك أنّي" (الحسين بن منصور الحلاج).

وبالتالي يصبح الحب هو رؤية الذات (جزئياً أو كلياً) في المحبوب "والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبّـك مقـرون بأنفاسي .. ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي .. ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحاً إلا وأنت بقلبي بين وسواسي .. ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكاسِ" (الحسين بن منصور الحلاج)، واعتباره بالتالي جزءاً منها، فهي لا يكتمل وجودها (إلا إذا التقت الاثنتان)، ولذلك يصف البعض انفصال المحبوب كانفصال القلب أو الروح "وتذهبُ بالأشواقِ أرواحنا منا" (مدين بن الغوث). ثم تتوحد الذات مع الآخر "لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ .. فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ .. وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ .. وألواحُ توراة ٍ ومصحفُ قرآنِ" (محيي الدين بن عربي، أدين بدين الحب)، فهو لم يعد يراه ولا يعرفه إلا من خلاله. وبأخذنا هذه الأشكال الكثيفة من الحب والائتناس، إنما نسوق الدليل على قيامه بمدى الاقتراب من الذات من حيث هي، أي مما تُعرّف هي به.

وبالتالي، عودةً إلى ما سألنا سابقاً، يتوقف ائتناس أحد الناس بوجود من يرى فيه صوراً من نفسه عن قرب، قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وذلك يعني أن النفوس قريبة من البداية، وأنها تسكن إلى بعضها - بالمعنى الجنسي والإنساني أيضاً - عندما تكون "منها" ، وهذا جواب السؤال الأول. وأما جواب السؤال الثاني، فإن الإنسان الذي تسير حياته مساراً جيداً بلا رفقة، إنما لم يجد بعد من يرى فيه نفسه، قريباً أو صديقاً أو رفيقاً أو مُحباً.

"خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
وطني.
هل تحسّ العصافير أنّي
لها
وطن ... أو سفر ؟
إنّني أنتظر ...
في خريف الغصون القصير
أو ربيع الجذور الطويل
زمني.
هل تحسّ الغزالة أنّي
لها
جسد ... أو ثمر ؟
إنّني أنتظر ...
في المساء الذي يتنزّه بين العيون
أزرقا ، أخضرا ، أو ذهب
بدني
هل يحسّ المحبّون أنّي
لهم
شرفة ... أو قمر ؟
إنّني أنتظر ...
في الجفاف الذي يكسر الريح
هل يعرف الفقراء
أنّني
منبع الريح ؟ هل يشعرون بأنّي
لهم
خنجر ... أو مطر ؟
أنّني أنتظر ...
خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
كان يهملني من أحب
و لكنّني
لن أودّع أغصاني الضائعة
في رخام الشجر
إنّني أنتظر ..."
(محمود درويش، هكذا قالت الشجرة المُهمَلة)

الثلاثاء، 13 مارس 2018

الكيفيات (7) : كيف كانت الوحدة من الداخل؟ (2) : في التشتيت واللقاء



يمكن أن تتواجد مواضيع يتحرك فيها الإنسان لكنه يشعر بالوحدة، كطفل لا يجد من يشاركه اهتمامه بمتابعة رياضة ما، أو كمراهق انخرط في متاهات الحاسب الآلي ولا يجد من يرافقه، أو كشاب يقضي أيامه ولياليه في الأفلام والمسلسلات وحيدا حتى مل، وهنا لا تكون النقطة بعيدة عن بقية النقاط في خطها بقدر ما تلتزم حركة أكبر لحصول الوصول، ويتطلب ذلك أن تتحول النقطة من محطة استقبال فقط إلى محطة استقبال وإرسال، وحيث أنه لكل فعل رد فعل حسب قانون نيوتن الثالث، فطالما وجدت رسالة سيوجد المرسل إليه، حتى لو لم يظهر لسبب ما. ولكن ذلك مرهون بمحتوى الرسالة كذلك.

 وقد يوجد اجتماع في العمل والأسرة أو التنظيم ولا توجد جماعية، كأن يكون العمل منفرا فلا يمكن أن يصبح موضوعا مجمعا، وهنا قد يتنافر العمال أو يمدون طرقا جديدة للتواصل على أراض مشتركة بينهم، كالكلام في الحياة، وإذا ثبتت الأخيرة عند أحدهم فلا مفر من وحدته بينهم، وكذلك اذا توقفت اختلافات وتغيرات الحياة في الأسرة عند أحد أعضائها فلم يعد هناك ما يتحدث فيه، أو إذا ركد التنظيم على افراده وتوقفت مياه الإبداع فيه عن السريان، أو إذا ظنوا أن السياسة أغلقت في وجوههم فلم يعد هناك سوى إعادة إنتاج الشكوى من الواقع الراسخ، فلا مفر من انفضاض الجمع.

 وإذا استقر أمر الإنسان في وحدته فسيذهب هذا به إلى الهلاك أو المرض أو الجنون أو التعايش أو الإبداع في حالات قليلة. ويتمثل الهلاك في الإقدام على الانتحار، والمرض في الاكتئاب والأمراض النفسية، والجنون في النسخة الأقسى من هذه الأمراض والتي يمكن تمثلها في الشوارع فيمن نسميهم "المجذوبين" الذين غرقوا في وحدتهم. والتعايش سنتطرق له لاحقا .وفي الحالة الأخيرة يمكن أن يحول المبدع وحدته إلى تعبير صارخ، وإثبات للوجود في وجه العالم، كحيلة للخروج من الوحدة بالدخول في الجميع من أبواب سرية، فلا تكون الوحدة وقتئذ بالنسبة للمبدع واطئة أو حتى محسوسة، فقد أتاحت له فرصته التوحد مع كثير، ولو على مستوى آخر غير مرئي، لكنه يستطيع التقاطه.

 وبعد ظهور الإنترنت في نسخه الاجتماعية، أصبح من الممكن دائما وجود موضوع، ولو بشكل افتراضي. أصبحت المواضيع شبه مفتوحة للانخراط فيها، وأصبحت الرسائل عامة في إنتاجها وإعادة إنتاجها حتى تستنفذ وتستبدل برسائل جديدة حسب السائد والمنتشر. حتى أن الذوات نفسها تحولت إلى مواد للتموضع، وأصبحت هذه الديناميكية ضامنة لتكذيب أثر الوحدة الحقيقة بجماعية مصطنعة اصطناعا، ومتحولة إلى ملجأ شبه دائم لكل الهاربين من أثرها المر، إلى السكر بنبيذ الشتات الأكثر مرارة، لتتحول حياتهم إلى وحدة في الواقع، وشتات في المفترض.

 وإذا كنا اتفقنا أن التغيير لازم لنقض الوحدة، فينبغي القول بأن التغيير ينبني على ثلاثة معارف: معرفة حاضرة، بالموضع الذي نحن فيه، ومعرفة ماضية، بالموضع الذي أتينا منه، ومعرفة مستقبلية، بالمواضع الافتراضية التي يحتمل أن نذهب إليها، وثلاثتهم في العقل: فالأولى محلها التفكير، والثانية محلها الذاكرة، والثالثة محلها الخيال، وبغياب أحدهم تغيب القدرة على التغيير الواعي لموضع أفضل، فلا يمكن القفز من الماضي إلى المستقبل بلا علم على أي أرض نقف، أو بلا آلية للعمل الحاضر أصلا، ولا يمكن التحرك خطوة بلا معرفة بالخطوات التي أدت بنا إلى هنا، ولا يمكن التحرك أصلا إذا توقف العقل عند الحاضر وإتمامه بلا أي أفق لتجاوزه.

وإذا كان التفكير (كآلية عقلية) لا يحتاج أمثلة للدلالة على أهميته في القيام بالفعل - أي فعل - والذي يؤدي إلى التغيير - أي تغيير. فكلا من الذاكرة والخيال يحتاج. وفي تمثيل دور الذاكرة في التحرك الإنساني، يقول فؤاد حداد "أقولك الحق واضرب لك مثل ساير .. وان كنت ماعرفشي لا اخبي ولا اساير .. من صغر سني وأنا صاحب مزاج ثاير .. واكمني ثاير لا يمكن يا ألف بائي .. تلاقي زيي على عهدك أليف باقي .. واكمني ثاير بقول من فات قديمه تاه .. لابد للحي يترحم على موتاه .. واللي أتى بالجديد لولا القديم ما أتاه .. يا أمَّتاه أنا ابنك عالأثر ساير" (فؤاد حداد، ديوان المسحراتي)

وفي تمثيل دور الخيال، فإذا كنا استددلنا سابقا بالآية {حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فنعود هنا ونشير إلى الطبيعة التغيرية للنفس كما وردت في القرآن، فيقول تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ويقول في موضع آخر {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118]. أي أن النفس تضيق وتتسع. وفي الآية الأخيرة ارتبط الضيق {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بالتخليف، أي الترك، فارتبط الضيق بالوحدة. وقال الشاعر "لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا .. ولكنَّ أَحلامَ الرِّجالِ تَضيقُ" (عمرو بن الأهتم المنقري). فآل ضيق البلاد بأهلها (كما ضاقت الأرض بما رحبت) إلى ضيق أحلام الرجال، أي خيالهم، الذي هو أحد محركات التغيير، والخروج من ضيق الوحدة إلى رحابة الجماعية.

ينبغي البحث عن هذه المحركات الثلاثة (الذاكرة، التفكير، الخيال) الدافعة للتغيير الذاتي - الذي يؤدي بالضرورة للتغيير الجماعي، والتحول من وحدة الإنسان إلى جماعية الإنسان/وحدة المجتمع.

وإذا توفرت المحركات الثلاثة، ووجدت المواضيع، ولم توجد الذوات المناظرة، فسيؤدي ذلك إما للبحث عنها، أو للارتداد داخل تصور موازي للعالم كقطب آخر مناظرا للذات كقطب أول، وتحدد العلاقة بين القطبين شكل الحياة، فيكون العالم فاسدا أو عبثيا أو مجنونا أو جميلا أو ظالما أو منسجما أو خاطئا أو متشكلا بتصور معين (قد يتغير) للفرد عنه، وعلى النظير يكون الفرد إما متماهيا أو مسالما أو ساخطا أو ساخرا أو محبا أو كارها أو لا مباليا أو غاضبا أو متحديا في حالات قد تتغير باستمرار أو قد تثبت. تمثل أشكال الحياة سابقا الذكر التعايش كنتيجة محتملة لوحدة الإنسان. لكن كما يظهر، فإن النتائج الخمسة المحتملة (الهلاك، المرض، الجنون، التعايش، الإبداع) متداخلة وغير واضحة الحدود. فيمكن اجتماعها جزئيا كما اجتمع المرض والتعايش في جوناثان نويل بطل رواية الحمامة للأديب الألماني باتريك زوسكيند، أو حتى كليا كما نرى في حياة الشاعر الألماني فريدريك هولدرلن مثالا (ستيفان سفايغ، بناة العالم 1). والوحدة في هذه الحالات متوازية إذا توفرت المحركات كما في حالة الشاعر وإذا لم تتوفر كما في حالة البطل.

لكن بما أننا وصلنا لأن توافرها لازما، فينبغي تصفية الجوانب السلبية للارتداد. فأما الهلاك، فلكي نقاومه، وهو الموت حتى إذا لم يكن جسديا، سنضع أمامه الحياة، والحياة لا يتم دفعها إلا بالحب - في معناه المطلق. وأما المرض، فتكون مقاومته بالصحة، كما يمكن تمثلها بالرياضة والممارسات الصحية. وأما الجنون (وهو عدم السيطرة على العقل أو التصرف بدون وعي) فتكون مقاومته ابتداءاً بالتعقل والتحكم إزاء مختلف تجارب الوعي والعمل على توسيعه ليشمل المزيد من الظواهر خارج الإنسان وداخله.

لنحاول استعادة ذاكرتنا، تصحيح تفكيرنا، إنارة خيالنا، إحياء الحب في قلوبنا، الاهتمام بأجسادنا، والوعي بأحوالنا، فلا تضيق بنا الأرض بما رحبت، ولا تضيق علينا أنفسنا.

تَضِيقُ بِنَا الدُّنْيَا إِذَا غِبْتُمُ عَنَّا * وَتَذْهَبُ بِالأَشْوَاقِ أَرْوَاحُنَا مِنَّا
فَبُعْدُكُمُِ مَوْتٌ وَقُرْبُكُمُ حَيَا * فَإِنْ غِبْتُمُ عَنَّا وَلَوْ نَفَساً مُتْنَا
نَمُوتُ بِبُعْدِكُمُ وَنَحْيَا بِقُرْبِكُمْ * وَإِنْ جَاءَنَا عَنْكمْ بَشِيرُ اللِّقَا عِشْنَا
وَنَحْيَا بِذِكْرِكُمُ إِذَا لَمْ نَرَاكُمُ * أَلاَ إِنَّ تِذْكَارَ الأَحِبَّةِ يُنْعِشْنَا
(أبو مدين الغوث)

الكيفيات (6) : كيف كانت الوحدة من الداخل؟ (1) : في التفكيك والبناء



لم يخلق الله أي شئٍ وحيد. إذا تأملت الإنسان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]، الحيوان {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]، النبات {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3]، الجبال، وحتى الكواكب والنجوم والمجرات، رجوعا إلى الإلكترونات والذرات {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49]. لن تجد تقريبا شئ إلا وله نظير ومكافئ. ربما يفسر ذلك التأكيد في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، ونفي النفي في قوله: {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، أي مكافئ. 

فهذه هي الطبيعة الجماعية (الاثنينية) لكل موجود. وإذا كان بني آدم هو المفضل على كثير من خلق الله فينبغي بالضرورة أن يظهر الفضل فيه في جميع أجزاؤه: العقل، الروح، الجسد، ففضل العقل في التصور والقدرة والإرادة، وفضل الجسد في أحسن تقويم، وفضل الروح فيم أشار إليه حديث النبي: ((الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما)، وفيها نجد القيمة الجماعية للإنسان، في روحه التي تأتلف مع نظائرها التي تتعارفها - ولنرجع هذا اللفظ إلى معناه القرآني في الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وهو يعني التواصل مع الآخر سواء الآخر الجنسي "ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ .. إذا التقتِ الاثنتان ِ : أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ" (محمود درويش، قصيدة لاعب النرد)، أو الآخر الإنساني. ونعود فنقول، أن هذه الجماعية (الاثنينية) جزء لا يتجزأ من الإنسان، فلا يستقيم أن يعيش الإنسان وحيداً. 

وجماعية الإنسان (أو عدم وحدته) مشروطة كما ورد بالتعارف: التواصل، والتواصل يعني الوصول المتعدد، والوصول يتطلب نقطتين بينهما طريقا، أي أن شرط التعارف وجود طريق بين الإنسان وبين كل الذين يأتلف معهم، فتكون الوحدة بالتالي هي انقطاع هذه الطرق. 

ومعنى وجود نقطتين بينهما خط أن كلتاهما تقع على هذا الخط، الذي ربما تقف عليه نقاط أخرى. كلتاهما تنتمي إلى هذا الخط. وإذا كان الأمر كذلك، فالنقطة الواحدة أيضا شريكة في خطوط كثيرة، مع نقاط أكثر عليها. وحتى لا تأخذنا هذه الصورة أبعد مما نريد، نعود فنقول أن الخط هو موضوع النقاط، والنقطة هي ذات الخطوط. وبالتالي أصبح الموضوع يتكون من ذوات كثيرة، لولاها لما وجد. فكيف نتحدث عن مشترك بين لا شئ؟ 

إذن، فلكي تقر جماعية الإنسان، وتدحض وحدته، ينبغي أن يكون مشتركا مع نظرائه في مواضيع تمثل لقاءهم وتواصلهم. فالمحبين موضوعهم الحياة المشتركة، والدارسين موضوعهم العلم، والمتفقهين موضوعهم الدين، والمثقفين موضوعهم الثقافة، والمتسيسين موضوعهم السياسة، والأهل موضوعهم البيت والمستقبل، والعاملين موضوعهم العمل، والأصدقاء موضوعهم الحياة الحاضرة والآتية، وتتعدد وتتجذر الموضوعات بين الإنسان ونظرائه المتختلفين، وحتى لو أصبحت هذه المواضيع هي حياتهم نفسها (في حالة الأهل والأصدقاء والعشاق).

وطالما كنا نتحدث عن الوصول بين نقطتين، فهذا يعني أننا نتحدث عن تحرك متخيل لهما (بينهما)، وإذا كنا نتحدث عن الحركة فيقول قانون نيوتن الأول للحركة: "الجسم الساكن يبقى ساكناً والجسم المتحرك يبقى متحركاً مالم تؤثر عليه قوة ما". وهذه القوة يمكن إحالتها للتغير. أي أن كل من النقطتين تتطلب تغيرا ما يدفعها لإعادة الوصول (التدفق) من جديد. وإذا لم يحدث ذلك؟ ستظل كلا النقطتين ساكنتين وسينقطع التواصل وسينفض الطريق. 

وذلك يعني مبدأيا أن كل نقطة ينبغي أن تكون في تغير باستمرار حتى تحافظ على الخطوط الموصولة بينها وبين النقاط الأخرى، وما لم يحدث ذلك تسكن وتنقطع صلاتها وتتوحد حتى تختفي من الوجود (بالنسبة لبقية النقاط) وتظل على ذلك ما لم يحدث تغير وتعيد الارتباط في خطوط جديدة مع النقاط المناظرة مرة أخرى. 

ونتيجة ذلك أن حل الوحدة يبدأ من التغيير الذاتي المستمر. فإذا لم يكن هناك تغييرا في حياة أسرة البيت سيشعر الفرد بالوحدة في الأسرة، وإذا لم يجد جديد عند الأصدقاء سيشعر الفرد بالوحدة بينهم، وإذا سكنت حياة المحبين لن تبقى أجنحة الحب معلقة في الهواء "كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه" (ابن عربي، رسالة ما لا يُعَوَّل عليه)، وإذا نضب خيال السياسيين لن تظل المسيرة مجتمعة، وإذا ظلت الأرض تجذب الساكنين لن تظل البلاد متسعة {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فجماعية الفرد (نقض وحدته) تنتج من تغيره المستمر، وتؤدي إلى وحدة المجتمع، لأنه أصبح بها فقط "مجتمعاً". ولا يوجد مجتمع ولا إنسانية من أناسٍ وحيدين.

الجمعة، 9 مارس 2018

فكرة في غير محلها حتى افتتاح محل

أنا هدخل على الأدب نوع أدبي جديد اسمه شبه القصيدة، يعني كلام ينفع يبقى ليه معني وينفع يبقى ليه لحن بس لا ليه معني ولا ليه لحن وفضل كذلك بين فتور الكاتب وفضول القارئ وتحفز الناقد لحد ما تراكمت عليه أجيال العيون وقام بذاته والناس حبته

في الهزائم التي لا يراها أحد


بوظت مدينتي اللي كنت بنقل منها المشاهد بانتصار واتهزمت لما افتكرت ان حرقها هيولدلي الدفا، دلوقتي استعمرت صخرة من الحطام ومش لاقي طريق ممهد ارجع منه، مسجون بالظبط في الحتة اللي كان بيهرب منها، لا عارف يرجع لسجنه الأصلي ويجرب يحفر من جديد ولا عارف يصدق انه كل ما يجرب يمشي في جنته يقع على حاجات متكسرة كانت قبل كدة لوحاته وتماثيله. غمض تاني عشان يدور تاني على خرم اسود يهربه بس لما غمض شاف الكل سواد وماعرفش يلاقي الثغرة وسطه. جرب يعيد ترتيب الحطام أو يعيد تلفيقه اكتئب. دور على أمل في الأفق الأزرق اللبني يبصله ويتعلق، بس أول ما بص اتزحلق وعرف إن خطوته قريبة، نظرته زايغة، روحه مغيمة، إيده مرتعشة رغم جريان الدم في اللحم زي جريان الحبر في القلم. كل ما ترسم ماتصيبش الفكرة الأولى لكن ترتد لمساحة أضيق على النفس من الحيرة. غلبني البرد والحر واتحججت بالخير والشر إني الاقي بيت اسكنه مالقتش غير بيت قلته وهديته وماخرجش من ودني صدا التكسير.