لم يخلق الله أي شئٍ وحيد. إذا تأملت الإنسان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]، الحيوان {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]، النبات {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3]، الجبال، وحتى الكواكب والنجوم والمجرات، رجوعا إلى الإلكترونات والذرات {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49]. لن تجد تقريبا شئ إلا وله نظير ومكافئ. ربما يفسر ذلك التأكيد في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، ونفي النفي في قوله: {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، أي مكافئ.
فهذه هي الطبيعة الجماعية (الاثنينية) لكل موجود. وإذا كان بني آدم هو المفضل على كثير من خلق الله فينبغي بالضرورة أن يظهر الفضل فيه في جميع أجزاؤه: العقل، الروح، الجسد، ففضل العقل في التصور والقدرة والإرادة، وفضل الجسد في أحسن تقويم، وفضل الروح فيم أشار إليه حديث النبي: ((الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما)، وفيها نجد القيمة الجماعية للإنسان، في روحه التي تأتلف مع نظائرها التي تتعارفها - ولنرجع هذا اللفظ إلى معناه القرآني في الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وهو يعني التواصل مع الآخر سواء الآخر الجنسي "ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ .. إذا التقتِ الاثنتان ِ : أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ" (محمود درويش، قصيدة لاعب النرد)، أو الآخر الإنساني. ونعود فنقول، أن هذه الجماعية (الاثنينية) جزء لا يتجزأ من الإنسان، فلا يستقيم أن يعيش الإنسان وحيداً.
وجماعية الإنسان (أو عدم وحدته) مشروطة كما ورد بالتعارف: التواصل، والتواصل يعني الوصول المتعدد، والوصول يتطلب نقطتين بينهما طريقا، أي أن شرط التعارف وجود طريق بين الإنسان وبين كل الذين يأتلف معهم، فتكون الوحدة بالتالي هي انقطاع هذه الطرق.
ومعنى وجود نقطتين بينهما خط أن كلتاهما تقع على هذا الخط، الذي ربما تقف عليه نقاط أخرى. كلتاهما تنتمي إلى هذا الخط. وإذا كان الأمر كذلك، فالنقطة الواحدة أيضا شريكة في خطوط كثيرة، مع نقاط أكثر عليها. وحتى لا تأخذنا هذه الصورة أبعد مما نريد، نعود فنقول أن الخط هو موضوع النقاط، والنقطة هي ذات الخطوط. وبالتالي أصبح الموضوع يتكون من ذوات كثيرة، لولاها لما وجد. فكيف نتحدث عن مشترك بين لا شئ؟
إذن، فلكي تقر جماعية الإنسان، وتدحض وحدته، ينبغي أن يكون مشتركا مع نظرائه في مواضيع تمثل لقاءهم وتواصلهم. فالمحبين موضوعهم الحياة المشتركة، والدارسين موضوعهم العلم، والمتفقهين موضوعهم الدين، والمثقفين موضوعهم الثقافة، والمتسيسين موضوعهم السياسة، والأهل موضوعهم البيت والمستقبل، والعاملين موضوعهم العمل، والأصدقاء موضوعهم الحياة الحاضرة والآتية، وتتعدد وتتجذر الموضوعات بين الإنسان ونظرائه المتختلفين، وحتى لو أصبحت هذه المواضيع هي حياتهم نفسها (في حالة الأهل والأصدقاء والعشاق).
وطالما كنا نتحدث عن الوصول بين نقطتين، فهذا يعني أننا نتحدث عن تحرك متخيل لهما (بينهما)، وإذا كنا نتحدث عن الحركة فيقول قانون نيوتن الأول للحركة: "الجسم الساكن يبقى ساكناً والجسم المتحرك يبقى متحركاً مالم تؤثر عليه قوة ما". وهذه القوة يمكن إحالتها للتغير. أي أن كل من النقطتين تتطلب تغيرا ما يدفعها لإعادة الوصول (التدفق) من جديد. وإذا لم يحدث ذلك؟ ستظل كلا النقطتين ساكنتين وسينقطع التواصل وسينفض الطريق.
وطالما كنا نتحدث عن الوصول بين نقطتين، فهذا يعني أننا نتحدث عن تحرك متخيل لهما (بينهما)، وإذا كنا نتحدث عن الحركة فيقول قانون نيوتن الأول للحركة: "الجسم الساكن يبقى ساكناً والجسم المتحرك يبقى متحركاً مالم تؤثر عليه قوة ما". وهذه القوة يمكن إحالتها للتغير. أي أن كل من النقطتين تتطلب تغيرا ما يدفعها لإعادة الوصول (التدفق) من جديد. وإذا لم يحدث ذلك؟ ستظل كلا النقطتين ساكنتين وسينقطع التواصل وسينفض الطريق.
وذلك يعني مبدأيا أن كل نقطة ينبغي أن تكون في تغير باستمرار حتى تحافظ على الخطوط الموصولة بينها وبين النقاط الأخرى، وما لم يحدث ذلك تسكن وتنقطع صلاتها وتتوحد حتى تختفي من الوجود (بالنسبة لبقية النقاط) وتظل على ذلك ما لم يحدث تغير وتعيد الارتباط في خطوط جديدة مع النقاط المناظرة مرة أخرى.
ونتيجة ذلك أن حل الوحدة يبدأ من التغيير الذاتي المستمر. فإذا لم يكن هناك تغييرا في حياة أسرة البيت سيشعر الفرد بالوحدة في الأسرة، وإذا لم يجد جديد عند الأصدقاء سيشعر الفرد بالوحدة بينهم، وإذا سكنت حياة المحبين لن تبقى أجنحة الحب معلقة في الهواء "كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه" (ابن عربي، رسالة ما لا يُعَوَّل عليه)، وإذا نضب خيال السياسيين لن تظل المسيرة مجتمعة، وإذا ظلت الأرض تجذب الساكنين لن تظل البلاد متسعة {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فجماعية الفرد (نقض وحدته) تنتج من تغيره المستمر، وتؤدي إلى وحدة المجتمع، لأنه أصبح بها فقط "مجتمعاً". ولا يوجد مجتمع ولا إنسانية من أناسٍ وحيدين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق