يمكن أن تتواجد مواضيع يتحرك فيها الإنسان لكنه يشعر بالوحدة، كطفل لا يجد من يشاركه اهتمامه بمتابعة رياضة ما، أو كمراهق انخرط في متاهات الحاسب الآلي ولا يجد من يرافقه، أو كشاب يقضي أيامه ولياليه في الأفلام والمسلسلات وحيدا حتى مل، وهنا لا تكون النقطة بعيدة عن بقية النقاط في خطها بقدر ما تلتزم حركة أكبر لحصول الوصول، ويتطلب ذلك أن تتحول النقطة من محطة استقبال فقط إلى محطة استقبال وإرسال، وحيث أنه لكل فعل رد فعل حسب قانون نيوتن الثالث، فطالما وجدت رسالة سيوجد المرسل إليه، حتى لو لم يظهر لسبب ما. ولكن ذلك مرهون بمحتوى الرسالة كذلك.
وقد يوجد اجتماع في العمل والأسرة أو التنظيم ولا توجد جماعية، كأن يكون العمل منفرا فلا يمكن أن يصبح موضوعا مجمعا، وهنا قد يتنافر العمال أو يمدون طرقا جديدة للتواصل على أراض مشتركة بينهم، كالكلام في الحياة، وإذا ثبتت الأخيرة عند أحدهم فلا مفر من وحدته بينهم، وكذلك اذا توقفت اختلافات وتغيرات الحياة في الأسرة عند أحد أعضائها فلم يعد هناك ما يتحدث فيه، أو إذا ركد التنظيم على افراده وتوقفت مياه الإبداع فيه عن السريان، أو إذا ظنوا أن السياسة أغلقت في وجوههم فلم يعد هناك سوى إعادة إنتاج الشكوى من الواقع الراسخ، فلا مفر من انفضاض الجمع.
وإذا استقر أمر الإنسان في وحدته فسيذهب هذا به إلى الهلاك أو المرض أو الجنون أو التعايش أو الإبداع في حالات قليلة. ويتمثل الهلاك في الإقدام على الانتحار، والمرض في الاكتئاب والأمراض النفسية، والجنون في النسخة الأقسى من هذه الأمراض والتي يمكن تمثلها في الشوارع فيمن نسميهم "المجذوبين" الذين غرقوا في وحدتهم. والتعايش سنتطرق له لاحقا .وفي الحالة الأخيرة يمكن أن يحول المبدع وحدته إلى تعبير صارخ، وإثبات للوجود في وجه العالم، كحيلة للخروج من الوحدة بالدخول في الجميع من أبواب سرية، فلا تكون الوحدة وقتئذ بالنسبة للمبدع واطئة أو حتى محسوسة، فقد أتاحت له فرصته التوحد مع كثير، ولو على مستوى آخر غير مرئي، لكنه يستطيع التقاطه.
وبعد ظهور الإنترنت في نسخه الاجتماعية، أصبح من الممكن دائما وجود موضوع، ولو بشكل افتراضي. أصبحت المواضيع شبه مفتوحة للانخراط فيها، وأصبحت الرسائل عامة في إنتاجها وإعادة إنتاجها حتى تستنفذ وتستبدل برسائل جديدة حسب السائد والمنتشر. حتى أن الذوات نفسها تحولت إلى مواد للتموضع، وأصبحت هذه الديناميكية ضامنة لتكذيب أثر الوحدة الحقيقة بجماعية مصطنعة اصطناعا، ومتحولة إلى ملجأ شبه دائم لكل الهاربين من أثرها المر، إلى السكر بنبيذ الشتات الأكثر مرارة، لتتحول حياتهم إلى وحدة في الواقع، وشتات في المفترض.
وإذا كنا اتفقنا أن التغيير لازم لنقض الوحدة، فينبغي القول بأن التغيير ينبني على ثلاثة معارف: معرفة حاضرة، بالموضع الذي نحن فيه، ومعرفة ماضية، بالموضع الذي أتينا منه، ومعرفة مستقبلية، بالمواضع الافتراضية التي يحتمل أن نذهب إليها، وثلاثتهم في العقل: فالأولى محلها التفكير، والثانية محلها الذاكرة، والثالثة محلها الخيال، وبغياب أحدهم تغيب القدرة على التغيير الواعي لموضع أفضل، فلا يمكن القفز من الماضي إلى المستقبل بلا علم على أي أرض نقف، أو بلا آلية للعمل الحاضر أصلا، ولا يمكن التحرك خطوة بلا معرفة بالخطوات التي أدت بنا إلى هنا، ولا يمكن التحرك أصلا إذا توقف العقل عند الحاضر وإتمامه بلا أي أفق لتجاوزه.
وإذا كان التفكير (كآلية عقلية) لا يحتاج أمثلة للدلالة على أهميته في القيام بالفعل - أي فعل - والذي يؤدي إلى التغيير - أي تغيير. فكلا من الذاكرة والخيال يحتاج. وفي تمثيل دور الذاكرة في التحرك الإنساني، يقول فؤاد حداد "أقولك الحق واضرب لك مثل ساير .. وان كنت ماعرفشي لا اخبي ولا اساير .. من صغر سني وأنا صاحب مزاج ثاير .. واكمني ثاير لا يمكن يا ألف بائي .. تلاقي زيي على عهدك أليف باقي .. واكمني ثاير بقول من فات قديمه تاه .. لابد للحي يترحم على موتاه .. واللي أتى بالجديد لولا القديم ما أتاه .. يا أمَّتاه أنا ابنك عالأثر ساير" (فؤاد حداد، ديوان المسحراتي)
وفي تمثيل دور الخيال، فإذا كنا استددلنا سابقا بالآية {حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فنعود هنا ونشير إلى الطبيعة التغيرية للنفس كما وردت في القرآن، فيقول تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ويقول في موضع آخر {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118]. أي أن النفس تضيق وتتسع. وفي الآية الأخيرة ارتبط الضيق {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بالتخليف، أي الترك، فارتبط الضيق بالوحدة. وقال الشاعر "لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا .. ولكنَّ أَحلامَ الرِّجالِ تَضيقُ" (عمرو بن الأهتم المنقري). فآل ضيق البلاد بأهلها (كما ضاقت الأرض بما رحبت) إلى ضيق أحلام الرجال، أي خيالهم، الذي هو أحد محركات التغيير، والخروج من ضيق الوحدة إلى رحابة الجماعية.
ينبغي البحث عن هذه المحركات الثلاثة (الذاكرة، التفكير، الخيال) الدافعة للتغيير الذاتي - الذي يؤدي بالضرورة للتغيير الجماعي، والتحول من وحدة الإنسان إلى جماعية الإنسان/وحدة المجتمع.
وإذا توفرت المحركات الثلاثة، ووجدت المواضيع، ولم توجد الذوات المناظرة، فسيؤدي ذلك إما للبحث عنها، أو للارتداد داخل تصور موازي للعالم كقطب آخر مناظرا للذات كقطب أول، وتحدد العلاقة بين القطبين شكل الحياة، فيكون العالم فاسدا أو عبثيا أو مجنونا أو جميلا أو ظالما أو منسجما أو خاطئا أو متشكلا بتصور معين (قد يتغير) للفرد عنه، وعلى النظير يكون الفرد إما متماهيا أو مسالما أو ساخطا أو ساخرا أو محبا أو كارها أو لا مباليا أو غاضبا أو متحديا في حالات قد تتغير باستمرار أو قد تثبت. تمثل أشكال الحياة سابقا الذكر التعايش كنتيجة محتملة لوحدة الإنسان. لكن كما يظهر، فإن النتائج الخمسة المحتملة (الهلاك، المرض، الجنون، التعايش، الإبداع) متداخلة وغير واضحة الحدود. فيمكن اجتماعها جزئيا كما اجتمع المرض والتعايش في جوناثان نويل بطل رواية الحمامة للأديب الألماني باتريك زوسكيند، أو حتى كليا كما نرى في حياة الشاعر الألماني فريدريك هولدرلن مثالا (ستيفان سفايغ، بناة العالم 1). والوحدة في هذه الحالات متوازية إذا توفرت المحركات كما في حالة الشاعر وإذا لم تتوفر كما في حالة البطل.
لكن بما أننا وصلنا لأن توافرها لازما، فينبغي تصفية الجوانب السلبية للارتداد. فأما الهلاك، فلكي نقاومه، وهو الموت حتى إذا لم يكن جسديا، سنضع أمامه الحياة، والحياة لا يتم دفعها إلا بالحب - في معناه المطلق. وأما المرض، فتكون مقاومته بالصحة، كما يمكن تمثلها بالرياضة والممارسات الصحية. وأما الجنون (وهو عدم السيطرة على العقل أو التصرف بدون وعي) فتكون مقاومته ابتداءاً بالتعقل والتحكم إزاء مختلف تجارب الوعي والعمل على توسيعه ليشمل المزيد من الظواهر خارج الإنسان وداخله.
لنحاول استعادة ذاكرتنا، تصحيح تفكيرنا، إنارة خيالنا، إحياء الحب في قلوبنا، الاهتمام بأجسادنا، والوعي بأحوالنا، فلا تضيق بنا الأرض بما رحبت، ولا تضيق علينا أنفسنا.
تَضِيقُ بِنَا الدُّنْيَا إِذَا غِبْتُمُ عَنَّا * وَتَذْهَبُ بِالأَشْوَاقِ أَرْوَاحُنَا مِنَّا
فَبُعْدُكُمُِ مَوْتٌ وَقُرْبُكُمُ حَيَا * فَإِنْ غِبْتُمُ عَنَّا وَلَوْ نَفَساً مُتْنَا
نَمُوتُ بِبُعْدِكُمُ وَنَحْيَا بِقُرْبِكُمْ * وَإِنْ جَاءَنَا عَنْكمْ بَشِيرُ اللِّقَا عِشْنَا
وَنَحْيَا بِذِكْرِكُمُ إِذَا لَمْ نَرَاكُمُ * أَلاَ إِنَّ تِذْكَارَ الأَحِبَّةِ يُنْعِشْنَا
(أبو مدين الغوث)

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق