السبت، 17 مارس 2018

الكيفيات (8) : كيف كانت الوحدة من الداخل؟ (3) : في التكثيف والفناء



في الفضاء الهندسي، إذا أردنا تعيين نقطةٍ ما، فإننا نقوم بتعريف قيمها في المستويات الثلاثة التي تشكل الفضاء، أي أنه لكي نقوم بتعريف نقطةٍ ما، فينبغي علينا تعريف ثلاثة قيم تمثل كل قيمة منهم موقعها في أحد هذه المستويات. وإذا أحلنا هذا الأمر إلى الفضاء الإنساني، فقد تتعدد المستويات التي يمكن من خلالها تعريف الناس، بتعريف مواقعهم منها. وإذا كنا قد افترضنا ارتسام الخطوط التي تجمع بعض النقاط من الناس، فإننا لم نفسر لماذا قد تجمع الناس طرقاً بدون أن تجمعهم قلوب، ولماذا قد يحقق الإنسان حل الوحدة بالتغيير ولا يخرج منها، وهذا الطرح هو محاولة للاقتراب.

فنقول إن هذا الخط الذي افترضناه سلفاً سيتشكل بتعيين النقاط التي من مواضيعها هذا الموضوع (الدراسة، العمل، الصداقة، العائلة، الثقافة، السياسة، الفكرة، الفن،...). ولكننا نجد زملاء في الدراسة أو في العمل، وأبناء للأسرة وللعائلة، وأصدقاء في المجموعة وشركاء في الأفكار، تتباين الدرجات بينهم تفضيلاً أو عزوفاً أو بينهما، وقد تصل بالطبع إلى العزوف التام، وبالتالي لن يجمع بين أصحابه (إذا استثنينا الظروف الأخرى) سوى الوحدة. وهنا تعود المشكلة مجدداً.

لماذا نفضل بعض الأصدقاء دون غيرهم؟ نحبهم؟ نعم، ولكن في هذا السياق بالذات، كيف نقوم بتعريف الحب؟ نعود إلى التصور الهندسي من جديد لكي نتمثل المسألة. فإذا كان لدينا خطاً يتكون من عدة نقاط، فكيف تكون العلاقة بين هذه النقاط غير علاقة متوالية؟ أي أنه لا يمكن استكمال هذا التصور بغير معرفة أن هذه النقاط توالي بعضها بعضاً، وبالتالي فبالنسبة لنقطة ما، تختلف المسافات بينها وبين النقاط الأخرى بقدر عددهم، وهنا تُحل المسألة. فهذا الخط الحُر في الفضاء الإنساني المُفترض، يجمع عدد من النقاط عرّفتها قيمها في المستويات الافتراضية المذكورة سلفاً. وبالتالي فكلما اقتربنا من هذه النقطة، نقترب أيضاً من القيم التي تمثلها، وكلما ابتعدنا عنها كذلك، نبتعد عن القيم التي تمثلها. ولذلك يكون من نحكم عليهم بالقرب من قلوبنا، مشتركين معنا في مستويات من التفاهم والتواصل (والتعارف) بكثافة أكبر مما هي مع الآخرين. وكلما زاد هذا الاشتراك، أي كلما قصرت المسافة، أي كلما اقتربت القيم بين النقطتين، كلما تبددت وحدة كل منهما، حتى تنعدم إذا كادا يتلامسان، فيصبحان مرآة لبعضهما البعض، وهنا يحدث ما يقول عنه درويش "ولستُ أنا مَنْ أنا الآن .. إلاَّ إذا التقتِ الاثنتان ِ : أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ .. يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ .. ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا .. عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ .. لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ" (محمود درويش، لاعب النرد). فقد قرن الشاعر بين الذاتين (إذا التقت الاثنتان)، التي لا تتعرف إحداهما إلا بهما، لكي يحل السماوي في الجسدي، وهو الحب. وسنجد كذلك أن هناك حباً صوفياً يتجاوز معاني القرب إلى ما دونها، فيقول الحلاج "عَجِبْتُ منكَ ومنّي .. يا مُنيَةَ المُتمَنّي .. أدنَيْتَني منكَ حتى .. ظَنَنْتُ أنَّك أنّي" (الحسين بن منصور الحلاج).

وبالتالي يصبح الحب هو رؤية الذات (جزئياً أو كلياً) في المحبوب "والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبّـك مقـرون بأنفاسي .. ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي .. ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحاً إلا وأنت بقلبي بين وسواسي .. ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكاسِ" (الحسين بن منصور الحلاج)، واعتباره بالتالي جزءاً منها، فهي لا يكتمل وجودها (إلا إذا التقت الاثنتان)، ولذلك يصف البعض انفصال المحبوب كانفصال القلب أو الروح "وتذهبُ بالأشواقِ أرواحنا منا" (مدين بن الغوث). ثم تتوحد الذات مع الآخر "لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ .. فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ .. وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ .. وألواحُ توراة ٍ ومصحفُ قرآنِ" (محيي الدين بن عربي، أدين بدين الحب)، فهو لم يعد يراه ولا يعرفه إلا من خلاله. وبأخذنا هذه الأشكال الكثيفة من الحب والائتناس، إنما نسوق الدليل على قيامه بمدى الاقتراب من الذات من حيث هي، أي مما تُعرّف هي به.

وبالتالي، عودةً إلى ما سألنا سابقاً، يتوقف ائتناس أحد الناس بوجود من يرى فيه صوراً من نفسه عن قرب، قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وذلك يعني أن النفوس قريبة من البداية، وأنها تسكن إلى بعضها - بالمعنى الجنسي والإنساني أيضاً - عندما تكون "منها" ، وهذا جواب السؤال الأول. وأما جواب السؤال الثاني، فإن الإنسان الذي تسير حياته مساراً جيداً بلا رفقة، إنما لم يجد بعد من يرى فيه نفسه، قريباً أو صديقاً أو رفيقاً أو مُحباً.

"خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
وطني.
هل تحسّ العصافير أنّي
لها
وطن ... أو سفر ؟
إنّني أنتظر ...
في خريف الغصون القصير
أو ربيع الجذور الطويل
زمني.
هل تحسّ الغزالة أنّي
لها
جسد ... أو ثمر ؟
إنّني أنتظر ...
في المساء الذي يتنزّه بين العيون
أزرقا ، أخضرا ، أو ذهب
بدني
هل يحسّ المحبّون أنّي
لهم
شرفة ... أو قمر ؟
إنّني أنتظر ...
في الجفاف الذي يكسر الريح
هل يعرف الفقراء
أنّني
منبع الريح ؟ هل يشعرون بأنّي
لهم
خنجر ... أو مطر ؟
أنّني أنتظر ...
خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
كان يهملني من أحب
و لكنّني
لن أودّع أغصاني الضائعة
في رخام الشجر
إنّني أنتظر ..."
(محمود درويش، هكذا قالت الشجرة المُهمَلة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق