قالت السيدة أم كلثوم ذات يوم : " وعايزنا نرجع زي زمان ؟ قول للزمان إرجع يا زمان " .
وهي لمن لا يعرفونها - وأنا منهم - الصوت الذي حارت منه البلابل , والصرح الذي جرت على لسانه الحكمة , والكتاب الذي نطق بلآلئ الأشعار , وقيل : كوكب الشرق , وقيل : سيدة الغناء العربي , و ثومة , و الست , و هي ملجأ العاشقين , و ملهى رواد المقاهي , و ملهمة المفكرين , و أنيسة الساهرين , وهي التي قالت " يا فؤادي لا تَسَل أين الهوى , كان صرحاً من خيالٍ فهوى ! " , وهي التي شَكَت " بدي أشكيلَك من نار حُبّي , بدّي أحكيلك عاللي فـ قلبي " , وهي التي حَكَت " فات من عُمري سنين وسنين , شفت كتير وقليل عاشقين , اللي بيشكي حاله لحاله , واللي بيبكي على موّاله , أهل الحُب صحيح مساكين ! "
أمّا بعد .. بدأ سباق الانتخابات الرئاسية وطغى على الرأي العام في شهري مايو ويونيو عام 2012 , و مع الوقت , تلاهى الناس عن المذبحة , فقال فريق : " دعونا من هذا وهيا بنا ننظر للمستقبل أمامنا " .. وقال آخر : " إن الانتخابات هي وسيلة لإسقاط ما فشلنا في إسقاطه بالثورة " .. وعلى كُلٍ .. جَرَت الأمور .. و انطلقت الحملات الرئاسية .. ولُصِقَت المُلصقات في الشوارع , وعُلِقَت اللافتات , وذيعت الإعلانات , وانطلق الكُتّاب يكتبون , والمذيعون يُرجحون ويتناقشون , والناس يسألون : " أيهم ستنتخب ؟ " .. وكان أهم ما في ذلك كله وأكثره تأثيراً على مجريات الأمور وعلى الرأي العام , الحلقات التي حضر فيها مرشحي الرئاسة على شاشات البرامج أمام الملايين .. يعرضون برامجهم و ما هم بصدد فعله عقب تولي المنصب و يردون على أسئلة المحاورين بكل لباقة و مثالية .. أو يردون على تساؤلات أو انتقادات المرشحين الآخرين .. أو يناظروا بعضهم البعض , وقد حدث ذلك مرةً واحدة بين عبدالمنعم أبو الفتوح وعمرو موسى .
لا أستطيع سرد أحداث وتفاصيل الفترة المتعلقة بما قبل بدء العملية الانتخابية , ولكن أستطيع أن أقول لك أنها برغم كل المصاعب التي واجهناها والعقبات التي كنا نعلم أنها أمامنا , كُنت لتشعُر أنك تتنفس الحُرية مع الهواء في الشارع وبين الناس , الإحساس بالإختيار والنقد والتحليل والمساندة والدعم والمشاركة والمقاومة والتشهير إذا لزم الأمر , هذا الإحساس الذي أحس به الناس لأول مرة منذ زمن طويل , حرية اختيار الحاكم .
أوضحت فيما سبق كيف أن المتنافسون يختلفون فيما بينهم عند الناس , وكيف يرونهم , وفي العموم , كان كُلٍ منهم يحمل فوق كتفيه حلم بعضٍ من أبناء الشعب , وكانت حركة الثورة وقتها لاتزال تنبُض في الشوارع , فتشعُر كأن الثورة لازالت مستمرة , وأن الصناديق هي النتيجة الحقيقية لما حدث , وهي الضامن لما لابد أن يحدث , وهي المتوقف عليه مستقبل الثورة , بل , مستقبل الوطن .
كُنتُ أتابع الأمور مثلي مثلي كل الشباب , بأمل , وبحذر , وبخوف , وكُنتُ منحازاً أولاً إلى عبدالمنعم أبو الفتوح , كنت أشعر فيه ببعض المستقبل لهذا البلد , وبعد حين , أخذت جانب حمدين صباحي , وكنا - معشر الشباب - أو لنقُل جزء منهم , نزعم أنه الأصلح وأنه رمز الثورة وقبله خالد علي , ولكننا كنا نؤمن بالفُرص , وكنا نقول أننا سندعم الأقرب للوصول حتى لا نُتيح للإخوان ولا لأنصار النظام السابق فرصة لأخذ البلاد حيثُ شاءوا بعيداً عن الثورة , ولكن بدا لنا في الأيام الأخيرة أن شعبية عبدالمنعم أبو الفتوح أخذت في التضاؤل بعد المناظرة التي أجراها مع مرشح الدولة عمرو موسى , وارتأى لي حينها أن فرصة مرشح الثورة تقوى وخاصةً بعد ظهوره كثيراً في الفترة الأخيرة وازدياد نسبة تأييده في الرأي العام .
وأخذت القرار قبل بدء العملية الانتخابية بأيام قليلة , ويومها , أغلقت وصلة الأغاني الثورية التي كان آخرها ( مطلوب زعيم ) , و وصلت مع صاحِبي إلى المدرسة التي أنتخب فيها , وانتخبتُ صبّاحي - رمز النسر .
وترقبنا النتيجة , وكانت شاشات البرامج تعرض النسب مباشرةً على الهواء وتستقبل نتائج الفرز الذي يجري على قدمٍ وساق في اللجان , و جاءت النتيجة المخيبة للآمال , المحطمة للطموح , المثيرة للدهشة : سيتسابق عادل إمام ورياض الخولي على ركل الكُرة , سيتنافس العسكر والإخوان على حُكم البلاد , ستجري الإعادة بين أحمد شفيق ومحمد مرسي على رئاسة مصر .
وكنا نتابع هذه الأخبار ليلاً على موقع لا أتذكره , وكان ( جروب الدفعة ) مشتعلاً وسبّاقاً بتحديث النتائج أولاً بأول , وكنا نمنّي أنفسنا بصعود الحصان الأسود كما لقبه الإعلاميون ودَفع أحد الإثنين , وظهرت حينها عدد من الإشاعات أذكر منها اثنين : أولهما , أنه يمكن أن تجري جولة الإعادة بين الثلاثة مرشحين ! ( من أول شخص أقنع الناس بهذا .. فلنُعطِه جائزة نوبل في الفَتي وتعليق الناس على الأحبال الذائبة ) , وثانيهما , أن الانتخابات قد تم تزويرها وأن الأصح أن يكون حمدين أحد الفائزين في الجولة الأولى , لا يهم من معه , المهم أنه أحد الفائزين في الجولة الأولى ! وحدث ما حدث , وقد استوعبنا الصدمة شيئاً فشيئاً وتقبلنا الواقع على مضض وأصاب بعضنا - أو كلنا - اليأس , وحدثتنا أنفسنا بوصول الثورة أخيراً .. إلى الطريق المسدود .
وبعد هذه الصدمة مباشرةً , بدأنا في النظر في الأمر , وفيمَ أدى له , وبدأ بعض الناس يرمي على الآخر تُهمة تفريق الصف , ويقول : لو أن أحدهم آثر المصلحة وفضّل انتصار الثورة على جلوسِه الكُرسي , لما وصلنا إلى ما وصلنا له , وقد كانت أصوات التيار الثوري التي ذهبت إلى حمدين صباحي وعبدالمنعم أبو الفتوح تقرب من التسعة ملايين صوت , بينما فاز كل من مُرسي وشفيق بأقل من ستة ملايين .
وسبحان الذي بيده المُلك , لم نكن لنفيق من الصدمة ليلتها حتى جائنا الحل السحري , حتى نزل علينا المدد من السماء , حتى بُشّرنا بالجنة , حتى انتبهنا لما لا تقوَ عقولنا على الوصول إليه , وقالوا : " اُعصُر على نفسك لمونة , وانتخب مُرسي " , وكُنّا فريقين : أحدنا بلغ منه الإحباط والغضب منتهاه , وقال إن المشاركة في هذه الجولة ليست من الثورة في شئ , ولن أعطي صوتي للنظام ولا للإخوان , والأخر , ملكه الإحباط والغضب أيضاً , ولكنه وافق على هذا الحل المؤقت , لئلا نُقاطع جميعاً فنُرجح كفّة الثورة المضادة بوجهها القبيح , فالمشاركة في صالح مُرسي في مواجهة الثورة المضادة هو نصر للثورة في ذاتُه , وقد كان , وظهر هذا الفرق بين الأصوات التي جناها مُرسي بين الجولة الأولى والأخيرة , وكان هذا الفرق ممن شاركوا لدحض الثورة المُضادة وإبعادها عن الطريق , وفي يوم الأحد 24 يونيو 2012 أعلن المستشار فاروق سلطان , رئيس اللجنة العُليا للإنتخابات الرئاسية , فوز الدكتور محمد محمد مرسي عيسى العياط بنسبة 51,73% , حيثُ حصل على 13230181 صوت بينما حصل الفريق شفيق على 12347380 صوت في المُقابل , وفي يوم السبت 30 يونيو عام 2012 , تولي مُحمد مُرسي منصب رئيس الجمهورية رسمياً , بعد أداء اليمين الجمهوري , وجَلَس على عرش البلاد .