اليوم الأول .. الساعة التاسعة مساءً .. " الشعب يريد إسقاط النظام " .. كان هذا أول ما سمعته حين صعِدت من محطة " السادات " .. كان العدد كبيراً .. سِرت وسط الجموع دون كلام .. دون هتاف .. أراقب بعيني وأذني فقط .. تعودتُ على ذلك مُنذ وقتٌ بعيد .. في 2012 تحديداً .. لا أهتف حتى إذا تعالى صوتي واختلط وارتفع تحققت لصحاب الهتاف أمنيته .. أعرف أصحاب المصالح جيداً .. من ذوي اللحى وأصحاب البِدل .. هكذا هي .. وليست كمثل أي شئ آخر .. كان الميدان مليئاً بأولئك الذين لم أعرفهم قبل .. لم أرَ أشكالهم .. لم أختلط بهم .. لا أخالطهم هتافهم ولو توحّد الهدف .. هذا الجيل ليس جيل الثورة .. أو هكذا أشعر .. بحق أو بغير حق .. لم أعد أتنفس نسيم الثورة .. هؤلاء لا يؤمنون بها .. نعم .. هُم فقط يُتاجرون .. يتاجرون بذكر الشهداء الذين طالما إتكئوا على الأرائك يقذفونهم بالسباب وينعتونهم بالصفات ويسخرون من مساعيهم .. وهم على الأرض يُقتلون .. هُم يهتفون بدمائهم اليوم وهم لا يعلمونها .. هم فقط يريدون أن يكسبوا تعاطف الناس فيهتفوا .. ويدّعوا الثورية .. والنضال .. والوطنية النابعة من القلب .. يصرخون .. يدعون .. يحسبنون .. وأنا لا أشعر بذلك كله .. لأنه ليس نابعاً من القلب .. ناهيك عن العَبَث المُترائي في كل مكان هنالك .. فها هنا الأزواج والأبناء الذين لا تنفك تراهم في الفنادق وفي المحال العامة .. قد رأيتهم أخيراً في الميدان .. وها هنا الأطفال الذين لا يفهمون .. بل .. لا يستطيعون أن يفهموا شئ .. يرفعون اللافتات ويضعون صور مرسي تحت أقدامهم ويهتفون بهذه البراءة " إرحل " .. وها هم الأطفال الأُخر .. الذين لا أراهم إلا على جوانب الشوارع والميادين يتحدثون بصوت خافت وينظرون للمارة في ريبة ويفعلون شيئاً لم أحاول فهمه .. والأمر من ذلك كله .. صورة " توفيق عكاشة " التي أذهلتني على رقبة أحد " الثوار " مٌحاطة بعلم مصر وبعض الكلمات الوطنية ! .. وفي سياق المُتاجرة .. بائِع العصير الذي يُحدث صوتاً إيقاعياً بالقطعتين المعدنيتين في يده .. ويتراقص مُغنياً " إرحل " تيت تيت " إرحل " تربتيت ... وبائع الخِرفان اللُعبة .. لكي يتصور المتظاهرون معهم أن " هاهاها صورني مع مرسي هاهاها " يا له من سخفٍ صعُب على مرارتي تحمله .. وتذكرون جميعاً النُشطاء الذين طُردوا من المسيرات لذكرهم مثلاً أن " الداخلية قتلت جابر " إذ أنه كيف نهتف ضد الداخلية وهي تهتف معنا ؟! .. وتذكرون أيضاً الهتاف الذي طالما علمنا كذبه وزوره .. أن " الجيش والشعب إيد واحدة " ها هو قد عاد من جديد بمباركة الثوار الجُدد .. تركت هذا العبث وراء ظهري وتوجهت مجدداً لمحطة المترو .. لم أذهب إلى البيت .. سأتجه إلى ميدان رابعة العدوية ..
الساعة العاشرة والربع مساءً .. صفين من اللجان الشعبية فوق رؤوسهم خوذ صفراء وورائهم حواجز سوداء .. " البطاقة " .. لم يرَ البطاقة في يدي فيسمح لي بالدخول .. بل أخذها ونظر على الوجه الخلفي .. أفسَح الطريق .. لم تعنّي ذاكرتي على ذكر الجُمل تحديداً ولكني سأحاول تقريب المعاني .. سمعت في طريق الدخول صوتاً بعيداً لكنه كان عالياً وقوياً .. يذكر الله ويصلي حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام .. " عاش مرسي .. عاش مرسي .. عاش مرسي " انتبهت فوجدت هذا الفتى يُطبل ويهتف ويهتف الناس من حوله والبسمة لا تُفارق أفواههم ! اقتحم الصورة شاب آخر ملتحي استفزتني ابتسامته العريضة هاتفاً " قال إيه بيقولوا .. يوم 30 .. مرسي قاعد .. 8 سنين " .. وكلهم ورائه بنفس الصوت .. ونفس الحماس .. ونفس البهجة الغير مُبررة إلا لاستفزازي .. استمر أمرهم . تركتهم .. " تكبييييييير .. الله أكبر .. تكبييييييييييييير .. الله أكبر " دخلت وسط الجموع تحت المنصة الكُبري .. وعليها كلمة الثورة على ما أذكر .. وبجانبها لافتة كبيرة عليها صور لأربعة شهداء مِنهم سقطوا مؤخراً .. حتى أن الذي سقط اليوم كان معهم في اللافتة .. رحمهم الله ! .. " الرسالة التانية .. الرسالة التانية .. لإخوتنا الأقباط .. الذين وقفوا يحموننا في الميدان .. لا ننسى لهم هذا الجميل ! .. ولكن .. نستنكر منكم نيتكم للنزول .. ماذا رأيتم من المسلمين حتى ترفضوا حكمهم ؟؟ .. أنتم إخوتنا في الوطن .. تعيشون معنا في الأمن والأمان والإستقرار .. أومرسي مثل مباراااااااااك ؟ " هكذا كان يُعلى صوته فيردون بسرعة شديدة " لااااااااااااااا " .. " أومرسي مثل مبارااااااااااك ؟ " .. " لاااااااااااااااااا " .. " إنكم إذا نزلتم .. فوالله إنها الحرب ! " .. ثم أتى الصوت من الجموع وتبعه حماسهم المُتقد دائماً " بالروح .. بالدم .. نفديك يا إسلام .. بالروح .. بالدم .. نفديك يا إسلام ! " .. " تكبييييييييييير .. الله أكبر " .. ثم أتى شاب مُلتحي آخر وهتف .. لا أذكر هتافه جيداً ولكنه كان في نفس السياق الديني والحماس والتوقد لنصرة الله والإسلام فيشتعل الناس هتافاً بالطبع .. فدعى أحدهم للكلام .. أطلق عليه " من قيادات الثورة " .. والله لم أره في حياتي ولم يره غير أولئك .. ظل هذا الإعلامي المَدعو يتكلم بنفس اللهجة ويوقد حماسهم برفع الصوت وجلب الهتافات التي تُشعل القلب المؤمن مثل " لا إله إلا الله " " بالروح بالدم نفديك يا إسلام " .. ثم الهتاف لمرسي الذي لا ينقطع أبداً .. ثم ذِكر بعض الإعلاميين بالسوء .. مثل باسم يوسف في المقدمة وتليه لميس الحديدي وبعض الآخرين الذين لم أذكرهم .. ثم أتى من أطلق الرجل عليه " مرشد الثورة " .. فقال .. " كلنا نرفع إيدينا ونمسك إيد بعض " .. فما وجدت نفسي إلا والرجل يجذب يدي ويرفعها معه ! لم أُبدِ شئ .. بدأ الشاب يُنشد للنبي وللإسلام وهكذا .. فحاولت فك يدي عن هذا العبث .. مُتظاهراً أنني يجب أن أرد على الهاتف ! .. تنحيت عن المكان الذي كنت أقف فيه حتى لا يلحظ الآخرون هروبي من هذا الأمر ! .. ثم أتت أصعب اللحظات التي مررت بها في هذا اليوم .. ألا عندما غنى " يا بلادي " .. وغنى الآخرون .. هكذا أنتم يا شهداء .. يُتاجر بكم في كل القضايا وفي الشئ وعكسه .. وهكذا لفظة الثورة التي باتت تُطلق من هُنا وهناك .. وهكذا الهتاف الذي يشترك فيه الفريقين .. " ثوار .. أحرار .. هنكمل المشوار " .. أما بعد .. بدت لي جموعاً أخرى من بعيد .. ذهبت لأتابع بدوري .. لم يكُن هناك شئ .. الشئ كان على الناحية الأخرى من الطريق .. وجدت على ما يبدو جمعاً كبيرة له وجهة واحدة يرفعون العُصي ويلبسون الخوذ الزرقاء ويهرعون .. ماذا هنالك ؟ أفكر أحداً في مهاجمتهم مثلا ً ؟ لنرَ .. جريت معهم فإذا بهم يلتفون عند نهاية الرصيف ويولون وجههم في الناحية المعاكسة .. نحوي .. ركزت برهة .. وعلمت أنهم يتدربون .. مَحميون بالخوذ الزرقاء وغيرها .. مُدرعون بالدروع مثل التي وجدناها في الصور من قبل .. مُسلحون بالعُصي من كل نوع .. وجزء كبير من هذه العصي كان له اللون الأبيض .. مُتحمسون لما يُجاهدون في سبيله .. يهتفون " قوة .. عزيمة .. جهاد " .. " حرية .. عدالة .. مرسي وراه رجالة " .. " الله أكبر .. الله أكبر " .. " لا إله إلا الله " .. " بالروح بالدم نفديك يا إسلام " .. يقودهم رجلٌ يلبس الدرع كاملاً وكأنه المُدرب لأنه كان يُلقي التعليمات للفريق و شيخ بجلباب أبيض وعمة مثله ولحية كبيرة .. وكنا كلما مررنا على قوم أمطروا علينا المباركات والثناء والحمد والتكبير وكل مظاهر الرضا .. ها هم رجالة الإخوان .. ها هو جيش الإسلام .. " قادم .. قادم " .. " قادم قادم يا إسلام " .. وقفنا حيث الطريق الذي دخلت منه في أول الأمر .. وتكلم الشيخ .. { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .. { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .. مُشيراً إلى أنهم يجاهدون في سبيل الله .. و أنهم سيموتون شهداء لله ولرفعة الإسلام .. وكلامٌ كثيرٌ في السياق نفسه لم أذكره .. وغادرت .. هؤلاء يقولون كل شئ باسم الله .. يفعلون كل شئ باسم الإسلام .. فكيف إذا لا يسمعهم أولئك المُغيبون ! .. مثل أن تأتي في الصفحة الرئيسية وتقول " لو بتحب النبي دوس لايك " أو " اللي بيحب ربنا يرفع إيده فوق " .. أو " وقالت الصناديق للدين .. ناعاااااااااااااااااااااام " .. أو " سيستبيحون أعراضنا ونحن هُنا لا نفعل شئ ! هيا نُطهر البلاد من الشواذ والكفرة ! " ... وهكذا دواليك ..
كانت هذه شهادتي كما رأيت وكما بدا لي .. حفظ الله مصر من كل سوء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق