اليوم , وفي طريق عودتي من وسط البلد راكباً مترو الأنفاق , راودتني بعض الأفكار. في الحقيقة أن ما ألهمني كان حذاء الرجُل الجالس أمامي , لم يكن شكل الحذاء المُبهر هو سر الإلهام , في الحقيقة أن الحذاء كان عادياً إلى حد السوء , وكان لونه برتقالي ! وكان متسخاً يشبه في وساخته حذائي الإسود الصغير , ولكنني فكرت في حذائي وحذائه معاً , وتطور تفكيري فنظرت لصدنل المرأة الجالسة بجانبه , ثم إلى أحذية الركّاب جميعاً!
عندما نموت , ستموت أحذيتنا , لن تعُد لتمشي في الطرقات مرة أخرى , لن تجتذب الوَسَخ والرمل والحجر , لن تنزلق في الطين أو في البنزين أو على قشور الموز , لن تطير في السماء عندما نركُلها عبثاً عوضاً عن كرة القدم. هذه الأحذية التي تتراص بعضها جنب بعض في عربة المترو , ستحل محلها أحذية أخرى - جديدة - بعد خمسين سنة , ستتهالك في حياتنا ثم ستصبح تراثاً في مماتنا يذهب في أول حملة لتنظيف البيت من كراكيب الزمن.
واتنقلتُ من تلك الأفكار إلى أن استمرار العمل هو ضمان استمرار الحياة على الكوكب , فالحذاء الذي يلبسه هذا الرجل يصنعه شابٌ في الثلاثين من عمره يرتدي سُترة زرقاء من القماش اشتراها من شابٍ صغيرٍ في العتبة ذهب في هذا المساء ليأكُل من مطعم يملكه الحاج خليفة الذي تعمل ابنته في مطابع الشرق , والتي عكفت لإسبوعين على طباعة مجموعة قصصية جديدة لكاتبة موهوبة اشترت لتوّها محمولاً جديداً باعه لها شابٌ في محل بمنطقة طلعت حرب يشرب الآن كوباً من الشاي من مقهى البُستان مع صديقه أحمد في المحل المجاور باع اليوم آخر قطعة من مجموعة البنطلونات الجينز التُركي يرتديها الآن الشابُ الواقف أمامي في وسط العربة ينتظر النزول.
الناسُ دائماً في حاجة إلى الأشياء , أشياء تؤكل وأشياء تُشرب وأشياء تُلبس وأخريات تقضي حاجات مختلفة من حوائج اليوم , كالبنزين يحرقه الناس ليل نهار سعياً إلى الأعمال والبيوت , والشبكة التي تصل رباب المغتربة ابنة عم عبدالرحمن بأهليها في بلاد مصر. والضمانة الوحيدة لاستمرار العالم عندما يوجد عضو جديد في المجتمع , هي أن يوفّر حاجة للمجتمع عليه , ووردتني فكرة هي أن العامل الذي يصنع الحاجات هو أكثر الناس أهمية في تلك السلسلة , أو الزارع الذي يزرع , أو العامل الذي يعمل في المنجم , أو المخترع الذي يؤلف الأشياء بعضها مع بعض فيلبي حاجة ويحل مشكلة بيده , أن عمل اليد هو أهم الأعمال لكونه يوفر الحاجات مباشرةً لبقية أعضاء المجتمع. ولكن ماذا عن الأعمال الأخرى ؟ هل توفر الأعمال الكتابية الأخرى في الدولة حاجة مباشرة لأعضاء المجتمع ؟ بصيغة أخرى .. هل هذه الأعمال تستحق أن تُبادل المجتمع إنتاجه اليدوي ؟ هل هي مُنتجة بما يعادل الأعمال الأخرى ؟ وما مدى تأثيرها على الإنتاج ككل ؟
وفكّرت أيضاً في حال الكاتب أو الفنّان , هل يوفّر حاجة لبعض أعضاء المجتمع فيُمكن القول وقتها أنه عضو فعّال في عملية الإنتاج ؟ أو أنه يستحق أن يسمي عمله عملاً , يستحق أن يقايض كلمات لسانه بما يؤكل ويُلبس ؟ رأيت وقتها أن الإجابة على كل هذه الأسئلة هي نعم , فالأعمال الحكومية مثلاُ توفر النظام الذي به تستقيم هذه العمليات كلها , والذي بدونه لا يوجد ما يوفر نظاماً دقيقاً لمسارات الحاجات في المجتمع وبالتالي فهو حاجة , بل إنه حاجة ضرورية ضرورة الإنتاج نفسه. أما الكاتب فيوفر لأعضاء المجتمع حاجة روحية , معنوية , لا تُلمس باليد , وبدونه سيعيش المجتمع في جمود , كالآلات التي تتحرك في المصنع في دورتها التي لا تنتهي , الفن حاجة من حاجات الإنسان وعليه فيكون الفنّان عضو مُنتج في المجتمع بدوره , وكذا الاقتصادي , والطبيب النفسي , ورجل القمامة , وكل من له عمل فهو يُحترم بقدر الفوضى التي يمكن أن تتخيلها بدونه , كلمة السر فقط هي أن يوجد للإنسان عملٌ يحبه ويتقنه ويوفر به حاجة بقدرها يتمثل قدره في المجتمع , وعليه فلا معنى لأن يُنتج الكوكب مئات البشر يومياً بدون أن ينمو هؤلاء ويبلغوا مرحلة الشباب ثم يجدوا أماكنهم في المجتمعات , تطويراً وبناءاً وإنتاج , لا معنى إذاً للبطالة التي تُضيع على الدولة فرصة استغلال طاقات الشباب الذين يملأون الشوارع وعربات المترو ومقاهي وسط البلد , الإنتاج لا يعني إلا أن يصبح الإنسان الواحد منتجاً , يوفر حاجة للناس فتوفر له الناس حاجاته , وإذا لم يحدث ذلك , فلا معنى للعيش.
كانت تراودني الأفكار من وقت لآخر , لماذا لا ينتهي العالم ؟ لماذا يستطيع البشر الاستمرار على الأرض لآلاف السنين ؟ ولا ينتهي الطعام ولا الماء ولا أي شئ ؟ من الذي يعكف على نظام الكوكب حتى يستمر الإنتاج مئات السنين ؟ وهل تستطيع الأرض إنتاج الطعام للأبد دون أن تموت هي الأخرى ؟ أسئلة كثيرة تُحيّرني , ولكنّي أجد مخرجاً من كل هذا , وهو أن كل الأشياء تدور في دائرة واحدة حتى تحتفظ بالنظام نفسه , الزرع يخرج ثم يُحصد ثم يُعاد الزرع , والأنهار تقل ثم يملأها المطر , والناس تموت ثم يحل محلهم الناس الآخرون , يزرعون مثلما زرعوا , ويصنعون أكثر مما صنعوا , ويعلمون أكثر مما علموا , في خط دائري ومتكسر ومنحني ومتعرّج ومستقيم ترسمه الظروف والأقدار , ويحفظه الذي يحفظ الكون كله في آيةٍ واحدة : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } صدق الله العظيم.
وأمّا عن أسئلتي الثلاثة السابقة : “ لماذا لا ينتهي الطعام ولا الماء ولا أي شئ ؟ من الذي يعكف على نظام الكوكب حتى يستمر الإنتاج مئات السنين ؟ وهل تستطيع الأرض إنتاج الطعام للأبد دون أن تموت هي الأخرى ؟ ” , فوجدت إجاباتها بين دفّتي المُصحف.
( .وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (الحج:5)
( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى… ) (الأنعام: 95)
( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ )(الروم:19)
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ) (الزمر:21)
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا… ) (فاطر:27)
( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) (النحل:10)
( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ) (ق:10)
( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ ) (المؤمنون:20)
( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ) (يوسف:47)
( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَباًّ * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقاًّ * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَباًّ * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَباًّ * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ) (عبس:24-32)
( الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) (يس: 80)
( وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (الرعد:4)
( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَباًّ مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (الأنعام:99)
هكذا إذاً تسير الأمور , الله يضمن لنا الرزق من الأرض ومن السماء , ويحفظ لنا دورة الأيام والحياة , ثم يأتي الاجتماع والفكر البشري المتراكم وخط التاريخ ليقوموا بدورهم في نظام العالم , وتدور الأرض حول الشمس , وتدور الأرض حول نفسها , وندور نحنُ حول الأرض , حتى إذا اهترئت أحذيتنا بدلناها بأخرى جديدة ; نسيرُ نحنُ , وتستمرُ الحياة.