يدخل حمام الكلية مرهقا وقد أنهكه المشي وعصفت بتركيزه المحاضرات المتلاحقة ، يغسل جبهة امتلأت قبل دقائق بالعرق ، ينظر لنفسه في المرآة ويغني بصوت مسموع جملتين قد خطرا على باله للتو : ” جمر الهوى جوة القلوب ” ، تأخذه النشوة فيبالغ في تقليد الأسمر : ” والع .. واالع ” ، ويكمل في شجن متناسيا صوته الذي بلغ أرجاء الحمام المغلقة حوله : ” لو غاب قمر ، مليون قمر .. ” ، يسمع حذقة من الخلف تعبر عن تعثر يائس : ” طالع ” ، تليها تنهيدة أخشن صوتا وأصوات اخرى لم يميزها ولكنه شعر بها حوله : ” طااالع ” ، ودوى انفجار أفقده اتزانه ، ثم هرع إلى الخارج مسرعاً , ونظر يميناً ويساراً في فزع , ومشى كأن شيئا لم يكن.
اقتضت بعض الأحوال أن أمشي كثيرا ، وفي مشيي الكثير لا أجد ما يسليني غير التفكير ، فتارة أعكف على عد مركبات الشرطة القابعة أمام الجامعة والتي تملك القدرة على اعتلاء احدهم السقف والاستواء على عرش القمع وإطلاق روائحهم الكريهة فوق رؤوس الحالمين. أهتم كثيرا بمعرفة موضع قوة الطرف الاخر ، افكر كيف يصبح ضعفنا قوة وتحدي وقوتهم ضعف وخيبة ، ونحن أصحاب الحلم والعلم والأمل. أفكر في أن جلوسنا عن النضال أسال دموعنا أكثر مما جففها ، أفكر كيف ينظر لنا الشهداء من فوق السماء.
فكرت مرة في ماهية السلاح الذي يمسك به فرد شرطة ملثم مدرع مضلع ومتأهل تماما. أفكر تحديدا في سر تأهبه. ثم أسأل نفسي في المطلق : علام يحتوي السلاح الضخم على ذراعه الضخم ؟ هل بداخل ماسورته التي ينتهي طرفها الحر في وجوهنا ،الرصاص الذي يقتل ؟ أم هو الرصاص الذي يلسع ؟ أم لا تحتوي بداخلها على شئ ، وإنما هذا السلاح لإرهاب كل من تسول له نفسه الانحراف عن مسار النظام الحكيم ، وهم في ذلك يعملون بكلام المنتقم الجبار إذ قال : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ؟ أفكر فحسب.
فكرت كثيرا في الأسباب التي قد تجعل هذه الجيوش السوداء ، وتلك الأسلحة الغليظة ، وهذه المركبات الضخمة .. في مواجهة الطلاب فقط، ولم أصل لإجابة تشفي.
في الغالب تأخذني الشرطة من أي محاولة أخرى للتفكير في أي شئ اخر ، بمجرد أن أجد نفسي صباحا أمام صفوف الجند تراقب الذاهب والآتي ، أو أجدها عصرا تذهل بين العربات المصفحة يعتليها ذوي الأسلحة الناظرون إلى جامعة القاهرة هم وأسلحتهم ، وبين صفارات النجدة والطوارئ والشرطة التي يجن جنونها بدئا من الثانية عشرة ظهرا.
لم أكن أريد أن ينجرف بي النص إلى هذا الكلام وحده ، كنت أريد الحديث عن اعتمال الأفكار بداخلي ، وكيف أنني فكرت أول أمس مليا في أسلوب الحوار في أغاني عمرو دياب في القرن الحالي ، وكيف أن أغنية عالم سمسم تأتيني بين الحين والمين ، وأن أغنية قوم يا مصري تعتمل في أذني تلقائيا كل يوم عندما أصحو صباحا ، وكأنني والشيخ سيد معا في عالم الأرواح هناك ، يناديني كل صباح أن أقوم وأسعى ، يوبخ ويحفز : ” يوم ما سعدي راح هدر قدام عينيك .. عد لي مجدي إللي ضيعته بإيديك ” ، ثم يفتتح يومي : ” يوم مبارك تم لك فيه الصعود .. حب جارك قبل ما تحب الوجود .. إيه نصارى مسلمين قال إيه ويهود .. دي العبارة أصل واحد من الجدود ” .. ثم أغنيها في خيالي مع الزمر الذي سلته أوتاره عن خطوط الدنيا ومدارات الكون وانحناءات الفتيات. في نهاية هذا اليوم السعيد ، يجب أن يمر على قلبي حماصة الرايق بقطار الإسكندرية السريع ، ويصب علَيَّ من حكمته :
“مستني مني إيه
أشوف جرحك في قلبي
وأضحك وأقول يا ليل
لو هتكمل عليه
قبل ما تجرحني هجرح
مش هبكي عليك ولا هفرح
لو قلبك كان ناسيني
مش هسأل تاني فيه
خليها تيجي مني
أحسن ما تيجي منك
وداع بوداع ما خلاص
هندم على إيه
ولا إيه …”
وقتها ، لا يسعني , ولا يحتوي مذبحة الجروح تلك ,غير لحافي الأزرق الجديد. أتخبأ بداخله مفزوعا ، وأنام في صمتٍ مُطبِق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق