تُرى هل تجوز الكتابة ظُهراً ؟ حسناً , سأرتكب ذنباً صغيراً إذاً لأنفُض ما اعتلى عقلي من أفكار اليوم .. وكُل يوم .
فكّرت منذ متى وأنا تعيس ؟ فامتد بي التفكير إلى السنة الأولى فقط , لأنني أذكر أنني كنت سعيداً في إعدادي وكوّنت صداقات ومعارف غامرة ورأيت أياماً يُشهَد لها .. ولكني أقول أيضاً أن هذه السنة لم تكون بهذه الصورة الجميلة فقط , لقد أحببت أحدهن وقتئذ , وتعلمون ما يرافق المُحب من حيرة وشرود وكآبة يحجبون في العقل ذكر اللحظات السعيدة - العابرة - .
وتذكرت أيضاً كيف كُنتُ قبلها .. هذا الولد البسيط , الذي نشأ في كنف أبويه , لا يعرف الخطأ , أقصى صياعته هي التأخر ليلاً مع أصحابه البائسين في غرف البلايستيشن , وأقصى انحرافه محادثة بعض البنات المملات في غرف الدردشة القديمة - التافهة - , هذا الفتى الذي تربّى في حضانة في الدقّي وتعلم أولاً في مدرسة لُغات ثم في مدرسة مشتركة ثم في مدرسة حكومية , لا يكاد يعرف إلا أنه طالب , يذاكر , ويذاكر , فقط . هذا الولد الهزيل الذي لا يكاد يأكل من فرط مذاكرته وتحصيله , كان تفكيره الجانبي الوحيد في الفتاة التي أحبها في الدرس فقط . هذا الولد - صانع السعادة - الذي يُراهنون به ليلاً ونهار ويكسبون .. انا ابني جاب 98.5 في المية ... يللا يا هيثم عشان ترفع راسنا السنة الجاية كمان :) ... والفرحة الكبرى .. انا ابني جاب 99.3 في المية .. والحُزن لأن ابنها لم يُدرج في قائمة الأوائل ولم يحظى بهدايا الوزير .. يا للأسف !
ثم يقولون , ستضع رجلاً على رجل وتختار القسم اللي انتَ عايزه .. فأبتسم .. فيقنعوني .. أن مهندسين البترول بيقبضوا بالدولار , فأقتنع , فيكتبوا لي هندسة بترول كرغبة أولى , وهندسة القاهرة كرغبة ثانية , ونسرد الكليات تباعاً - متأكدين أننا لن نفلت من أول وتاني رغبة - .. فتأتي تاني رغبة .. فنحزن لأنني لن أكون هذا مهندس البترول الذي يقبض بالدولار :-( وسأكون مهندساً عادياً مع المهندسين , ولكنني أطمئنها كي لا تحزن .. سأتفوق .. لا تقلقي .. ولم تقلق .
أمي .. أنتِ محقة فيمَ تَدّعين .. لم أعد هذا الـ هيثم الذي كان .. ابحثي عن ابنك المتفوق في مكان آخر .
أبي .. أنتَ محق أيضاً .. هذا الذي يأكل مأكلكم وينام على أسرّتكم .. غريب .. ليس منكم .. الذي منكم ذهب مع انقضاء الوقت .. ذهب ذهاب الريح .. الولد الذي أوصلتموه لمراتب العُلا والتفوق .. كبر .. ولم يُصبح ولداً .
عائلتي .. لا تفخروا بي هذا الحد .. مجموع الثانوية لا يتطلب هذا القدر من العبقرية ولا يستأهل هذا القدر من الخيلاء والفخر .. نعم , قليل من الذكاء ومعرفة تصريف الأمور وبعض استخدام العقل والقوانين وكثير من القدرة على الحفظ والتحايل .. لكن هذه ليست نهاية المطاف .. فقد اكتشفت لتوّي أنني لست وحدي .. وبالتالي .. لست فذاً .. ولست شاذاً .. كفّوا أيديكُم عني .. وافخروا بأحدٍ غيري .
هل تفخروا بابنكم أم تفخروا بالمهندس ؟ إذا أردتم أن تفخروا بمهندسٍ فالعالم ملئ بالمهندسين .. أما إذا أردتم أن تفخروا بابنكم , فلا تفخروا بهذه الدرجات الهزيلة ولا هذه المراتب الهاوية , فلتفخروا بأسلوب حياتي وأسلوب تفكيري وحبي للناس وسعيي للخير وتشدقي وراء المعرفة .. لا تسيروا مسار المجتمع الجهول الذي يحقر العلماء ويعظّم الجهلاء , انظروا إلى هذا المعظّم البائس الذي لا يكاد يفهم لما يعظمه الناس ! انظروا إليه ! لأن الناس جهالى لا يفقهون , وعُمي لا يرون , وضلالى لا يهتدون .. يسيروا وراء أي راعي بعصا غليظة وتأخذهم الرهبة والهيبة أحط مأخذ .. افتحوا أعينكم على الحقيقة وكُفّوا عن ترديد التفاهات .. من يحب شيئ يتقنه , ومن يكره شئ فلا جدوى منه فيه , يغركم تفكيركم , وتقتنعوا - كاذبين - بما ليس أهلاً للتصديق .. ليس لي أصدقاء - كما تزعمون - يدفعونني إلى حافّة الجبل حسداً وبغضاء .. كفاكُم خيالاً يا أهل القِدَم !
لماذا تفترضون استقرار الوضع وبقاءه دائماً .. ألا قادكم خيالكم ذات مرّة أن مبارك - الكهل - الذي حكم البلد 30 عاماً سيثور عليه الناس ذات يوم ؟ .. ألم تكونوا تعلمون أنني سأكبر , وسأفكر , وسأهتم .. بأشياء لا دخل لكم بها على الإطلاق ؟ علمتموني المشي ومبادئ الكلام وكيفية العيش والتعامل وأدخلتموني الحضانات والمدارس .. حسناً , تعلمت , كبرت , أصبحت قادر على التفكير وحيداً .. الشاب صاحب ال21 سنة لن يكون أبداً هو المراهق ذات ال17 عام .. إلا لو استطعتم اختراع آلة الزمن .. وقتها .. سلّموا عليَّ كثيراً , وقولوا لي .. أنك لما كبرت انحرفت عن الطريق , وقولوا لي ألا أفكر في شئ غير الكتاب الذي أمامي , والمال الذي في جيبي , لا أفكر حتى في البنت التي سأحبها , هم سيختارون لك , لا أنتبه إلى المقتولون في الشوارع , لأننا ليس لنا منهم في شئ وليسوا منا , وأننا نعيش لنتعلم ونعمل ونجني المال ونتزوج ونلد ونموت فقط , وألا أفكر في الكتابة أبداً لأنها تجلب المتاعب وتضيع الوقت , ولا القراءة إلا فيما هو مقرراً عليّ .. وقتها .. سآخُد احتياطي جيداً .. وسأكون لكم هذا الولد المطيع المألوف المتفوق المسالم .. إلى أن أموت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق