لسببٍ ما - معرفوش - أنا هكتب دلوقتي عن الشِعر .
أول قصيدة خطّتها إيدي كانت في ثانوي , وكانت محاكاة ساذجة ومفقوسة جداً لمعلقة عمرو ابن كلثوم العظيمة , ولما رحت لمدرس العربي وانا فخور بيها جدا فهم اني عايز بس لسة مش عارف ولسة مليش شخصية فباخُد من حاجة غيري واغير فيها شوية , وقالي : لو عايز تكتب شعر , احفظ القصايد , وانساها . ساعتها مفهمتهوش أوي , لكن انا دلوقتي فاهم اني لما احفظ قصيدة وزنها بيتسجل في حتة في دماغي , وبيتحول لإسلوب في حياتي وفي تفكيري , وفي موقف معين أو لما احس بحاجة معينة الطبلة ( الإيقاع ) ده هيرن , والمشاعر هتتحول لكلمات بتمشي جنباً لجنب مع الإيقاع المتناغم ده , وهتتحول في الآخر لأبيات موزونة , لدقّات متفرقش كتير عن دقات القلب .
مدرس العربي في السنين اللي بعدها كان يحب عشان يحفظنا الشعر يقوله بطريقه تبرز الموسيقى فيه , طريقة أقرب للإنشاد والغُنا , وكان ساعات كمان يقول حاجات في الشعر من برا المنهج عشان عارف اني شغوف بالأدب , وفي مرة من دول أنا حاكيت التجربة , وقلّدتها برضو بس المرة دي كنت فاهم أكتر وأضفت أكتر من عندي , البيت اللي قاله كان بيت واحد , وانا اللي قلته كان أربع أبيات بنفس الوزن والبداية , إذاً فيه تطور , ولكن عشان ميشجعنيش ويشغلني عن دراستي في الثانوية العامة قالّي حلو بس ركز , أحبطني , بس ركزت .
في المرحلة الثانوية كنت بحب أوي العربي , وخصوصاً الجزء بتاع النصوص والجزء بتاع تاريخ الأدب , وكنت بقرأ من الكتاب الخارجي أكتر من المقرر وكنت بنبهر بإن فيه ناس بتعرف تقول كلام يدخل القلب كدة ويلاقى هوى في النفس ويقع من الروح موقع السحر , وكمان يتفننوا فيه ويتبارزوا , كنت بفتح الباب على عالم جديد , عالم موازي ساد في العرب بلسانهم وقدرتهم على التعبير , باللغة العربية , ربنا - عز وجل - قال في بداية سورة يوسف : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) }
في أجازات الصيف في المرحلة الثانوية كنت بروح الساقية , اتعرفت هناك على شاب بيكتب شعر عامي , وحاولت اكتب ايامها , وفي نفس الأجازات كتبت أغنية راب سطحية جدا بس كانت موزونة ومقفّاة بقافية أي كلام , والقوافي الأي كلام أنواع كتير ممكن أذكرها بعدين , لكن اللي انا بقول عليها دي كانت قافية ضمير , ( ـنا ) , وكنت منبهر بيها برضو , وفي نفس الأجازات كنت بخرج مع أحمد عادل كتير , وكتبت رباعية كان بيقولّي عليها حلوة جداً , بس انا مش فاكرها دلوقتي , القصد هنا إني في المرحلة الثانوية بدأت تتشكل محاولاتي الأولى للمشي على أربع - زي الأطفال - وخلالها كانت قصّتي مع كتابة الشعر إلى أن ظهرت محاولاتي الأولى للطيران .
في تالتة ثانوي - على ما أذكر - كتبت أول قصيدة ينفع تتسمى قصيدة , بالمناسبة , كتير من المحاولات البائسة الأولى اتمسح بفعل فاعل , وكانت اسم القصيدة اللي شعشعت في دماغي في فجر يوم غريب : ( هَوَس الشِعر ) , ودي أول قصيدة منشورة ليّ على الإطلاق , القصيدة دي اتكتبت قبل الامحان النهائي بحاجة بسيطة , وكنت زهقت خلاص من الدراسة ونفسي ترنو للأجازة وللحرية وللحياة الجامعية المأمولة , وكنت عايز اكتب لـ ( الأجازة ) , في الحقيقة مكنتش عايز اكتب , بس هي المشاعر جَت كدة ساعتها , لدرجة إني معرفتش أنام , ونوّرت في دماغي أول أربع أبيات :
إليكِ يا معشوقَتي مكنونةٌ في الدُرَر
قصيدةٌ أنْشَدتُها مِن وَحي ظِلِّ القَمَر
ذَهَبَت دُعابات الكُلِم , وَذَهَبَ اُنسُ السَمَر
وفاضَ بَحرُ المشاعر , وظَلَّ هَوَس الشِعر !
وكان إحساس غريب ساعتها , دايماً الإحساس بالحاجة لأول مرة بيكون غريب ومفاجئ , إحساس الكلام اللي منتاش عارف تنام غير لما تقوله , لأ وجايلك مترتب كمان ومعبر , وكتبت بقية القصيدة , وعن القصيدة , فأظنها كانت موفقة بشكل كبير في القافية , اللهم إلا اختلاف الحركات في بعض المواضع , مبدأتش اراعي موضوع اختلاف الحركات ده غير قريب أصلاً , وفي الوزن كذلك بس برضو كان مختلف حبة وحبة , بس القصيدة عامةً كانت متماسكة ومحتفظة بشكل نقدر نسميه قصيدة , غير تسلسل الفكرة ذاتها , فكرة هوس الشعر اللي بيلاحقني فـ.......... ما تيجو نشووف ! *بصوت إبراهيم نصر* :
إليكِ يا معشوقَتي مكنونةٌ في الدُرَر
قصيدةٌ أنْشَدتُها مِن وَحي ظِلِّ القَمَر
ذَهَبَت دُعابات الكُلِم , وَذَهَبَ اُنسُ السَمَر
وفاضَ بَحرُ المشاعر , وظَلَّ هَوَس الشِعر !
يطاردني و يُذهب عني النوم حتي الفجر
حتي غدت عيناي .. معتادة هذا السهر
في كلّ وقتٍ يأتي .. وحتي حر الظهر
حين أقف لحظات .. من تعب هذا السير
يأتي ويقول لي : أخبرني عن الخبر !
هل تستمر عشيقاً ؟ أم فاض منك الصبر ؟
أضحك له وأقول : هيهات هذا السر !
فيقول لي غاضبا : هل من أحبَّ كفر ؟
أتريد كتم المشاعر .. سجينة في القبر ؟
ولمن تقول السر .. إن لم تقول الشعر ؟!
الشعرُ فيضُ الخواطر .. أتريدها تنفجر ..
في القلبِ مثل البركان .. أو مثل فيضِ البحر ؟
أسلمت نفسي اليه , ووجدت نفسي أسِر
علي شاطئٍ ذهبي , ذاهباً الى البحر
أعرفه جيدا .. إنه بَحر الشِعر
أين اختفي البر ؟ .. أين اختفي البر ؟؟
يا إلهي انا وحدي ! في البحر أين المفر ؟!
أجِد نفسي عائماً .. في عُمق هذا البحر !
عوما ًمن دونِ أرضٍ , وسواداً مِلء النظر
ألقي مصرعي غارقا .. في البحر وانتهي العمر
وفجأة وجدت نفسي .. منتبهاً في البكر !
أيقذني من غفوتي .. تغريدُ هذا الطير
و اكتشف أنني .. غفوتُ وقت السَحَر !
وأنني لم أمُت .. غرقاً , ولم ينتهي الأمر !
وأني ها أنا حيا .. أعيش وأكمل العمر
والوجه مشرق مصبح .. و الضوء أبيض فاتر
والجسدُ أنشط عملاً .. و العينُ نظر الصقر
والذهنُ صافي معافي , ماحاشا هَوَس الشِعر ..
يأتي إليَّ أقول : هيهات كتم السر !
بالأمس حَذّرتني .. من فيض هذا الخاطر
بالفعل فاض علي , وقتلني قتلَةَ ماكِر
لكن سأعِدَك دوماً , وإنتظر وَعد الحُر !
لن أنتهي من قلمي .. لن أستقيل الشعر !
وشكلي - والله أعلم - لحد دلوقتي بفي بالوعود , ولكنّي بعدها فضلت مستني الهوس ده يجي تاني , مفيش , طب احاول اؤلف حاجة تانية واتمحك في الاسم , انسى , طب يعني اومال ايه ياعم , انا مخنوق ومش عارف اعبر عن نفسي ياعم انتَ , وفي ليلة حزينة من ليالي الإسكندرية , فوقي السما ( ملحوظة : كان فوقي سقف الشقة وكنت باصص من البلكونة بس عشان متفصلش ) , فوقي السما وعلى مرمى الأفق البحر , مسكت الورقة , والقلم , وقُلت أدوّر بنفسي عاللي مش لاقيه :
أبحث عن الكلمات
وأقولُ : أينَ ذَهَبَت ؟
أعادت مما أتت ؟
في الدُرر التي تسكُنها
في البِحار ؟
ومش كل ماقول على قصيدة هقعد اقولها كلها بقى , القصايد موجودة عادي للي يدوّر أو للي يسأل , وبقصيدة الكلمات رويت ظمأي ليلتها وكتبت كذا خُماسية موحدة في قافية البيت الخامس في كل منها , وأفضت في الآخر لـ :
ومجلسي هذا لن أغادر
أنتظرها وأمامي بحر
في مدينة بناها الإسكندر
وأمامي ورقتي وقلمي الحر
ولست أجد مللاً أو ضجر
.. في الأنتظار
وبالفعل استنّيت , استنّيت كتير ومكنش فيه اي حاجة قادرة تجيب نفس الحالة الأولى ( النموذجية ) اللي جاتلي في مايو 2010 , وفي يوم جاتلي فكرة عن الحُب , وكان مفاد الفكرة إن الإنسان ميقدرش يعيش من غير نصه التاني , وكتبت يومها ( النصف التائه ) , وكانت قافية أي كلام برضو , كانت ضمير الغائب , بس أكاد أشعر انها عجبت الناس عشان الحالة نفسها , وعشان الإحساس نفسه , وعشان تسلسل الفكرة بالضرورة , ومكانتش موزونة , بمعنى إنها كانت جمل متقاربة في الوقت , ولكنها بالنسبة لي مش حلوة , لإنها بتمثل حالِة مراهقة شديدة , وفترة مش سعيدة في التفكير العاطفي وحتى التفكير العام , بل , ومحاولة سد الفراغ ده بإمكانية الشعر , المعدومة في الأساس , فاللي يطلع في الآخر محتوى لمراهق بيوصف قصته البائسة , وبيجلب ليه المستمعين والمتعاطفين بالشِعر , ولكنها مكانتش كدة في نفسي ساعتها , هي كانت تجربة حقيقية طلعت منّي وليست اختلاق , ولكن بقول , إن التجربة التعبيرية عن النفس في الوقت باستخدام الشعر ( عنوةً ) , سجّلت نُقطة سالبة في التجربة الشعرية الإجمالية , ومأحرزتش أي إنجاز غير في ( الإخبار ) , وعشان كدة مسجّلتهاش من ضمن قصائد الشِعر اللي كتبتها .
ودي كانت الصفحة الأولى في قصّة الشِعر في حياتي القصيرة , الصفحة اللي اتقلبت , أول ما دخلت الجامعة .
يتبع..