" واللي ماتوا في بورسعيد عشان رجال
لما قاوموا حُكم عسكر كالجِبال
باقية ذكريات حياتكو فـ كل بال
شهداء الوطنية جوة قلبي
للأبد
للأبد
للأبد"
الكتابة حِملٌ ثقيل , ينوء عن حمله كل من في نفسه الكسل , أحارب نفسي في كل يومٍ أعمد فيه إلى الكتابة , أفرّغ عقلي , أستدعي ذاكرتي , أوقظ ضميري لئلا أظلم أو أفتري على الناس كذباً أو أكذب بالحق , إنه لا يفلح الظالمون.
استيقظت من نومي في يوم السبت , 26 يناير 2013 , مبكراً , عارفاً موعدي الذي لا أتأخر عنه , وقد اتخذت الحذر والحيطة لئلا أصحو إلا وهُم نيام , ارتديت ملابسي ونظّارتي السوداء بعد أن تهتّكت البيضاء في أحداث الأمس , وتوّجهت إلى النادي الأهلي بالجزيرة.
كُنتُ من أوائل الواصلين هناك , وانتظرتُ حتى امتلأ الجمع , لا أتذكر الساعة التي احتشد الناس فيها وملأوا الشارع , اليوم , كان يوم النطق بالحكم في قضية " مذبحة بورسعيد " التي راح ضحيّتها اثنان وسبعون شابّاً من مشجعي النادي الأهلي قتلاً في مدرج استاد بورسعيد وفي أنحاءه ذبحاً وضرباً ورمياً من الأعلى ودهساً من الأسفل وتدافعاً واختناق , وقد وقف في قفص الاتهام 73 متهماً من بينهم 9 من القيادات الأمنية بمديرية أمن بورسعيد و3 من مسئولي النادي , وبعيداً عن الدخول في تفاصيل القضية نفسها , فقد كان هذا يوماً فاصلاً بالنسبة لرابطة مشجعي النادي الأهلي " Ultras Ahlawy " , وقد قاموا بعدّة فعاليات منذ الإعلان عن موعد جلسة النطق بالحكم , إلى يوم الجلسة نفسها , لكي يلفتوا الرأي العام في الشارع إلى قضيتهم , وقد شاركت في بعضها , وكان من هذه الفعاليات , تنظيم المسيرات الضخمة , وقطع بعض الطرق المرورية وأنفاق المترو , ومحاصرة بعض منشآت الدولة , في رسالة واضحة إلى النظام الذي طالما ماطلهم في مطالبهم المشروعة , النظام الذي تواطأ ضدهم في الأساس , بل كان هو العدوّ الذي تُشير إليه الأصابع , وكانت هذه الفعاليات تتم في وقت محدد , وفي دقّة وسرعة وانسيابية التفّت لها رؤوس الناس , العامّة , والمسئولين , والإعلاميين , وأذكر من ذلك كلام محمود سعد إعجاباً أنه قال " خلّوا البلد تلف حوالين نفسها في ساعتين ! " , ولم يكن لي نصيبٌ في المشاركة في هذا اليوم , يوم الضربات النوعية السريعة , وعندما ذهبت للتحرير لأشهد في حصار المجمع , وجدْت أن الجمع قد اختفى , يقول الزعيم الصيني القديم ( صن تزو ) في كتابه ( فن الحرب ) : " اهجم بينما هو غير مستعد، اظهر في المكان الذي لا يتوقعك فيه ".
وقد امتلأت الجدران في الشوارع والحارات والأنفاق بكلمتين كانت لهما فعل الرصاص , في تخويف العدو , " 26/1 .. القصاص أو الفوضى " .. الكلمتان اللتان ظل يفكّر بها السياسيون والإعلاميون والمسئولون لأيام , وكلمّا اقترب اليوم ارتفعت الأصوات واحتشدت الآليات واستعدّت الأجهزة , ليوم التقاء الجمعان , فهُنا تضرب القلوب نزولاً وارتفاعاً في انتظار الحَق , وهُناك تترقّب الأعين وترتعش الأيدي بحثاً عن من هُم وراء القضبان , يواجهون اتهامات القتل العمد , وثالثتهما بعيدة في الصحراء , عند قاضي سينطُق الآن بالحُكم , فتعُم الأفراح هناك , وتعم الفوضى هنا , أو تتطاير الاحتفالات هُنا , وتتطاير الرصاصات هُناك , وبين هذا وذاك فريقان يترقّبا , أحدهما ظُلِم , والآخر أظلم , أحدهما ينتظر القصاص , والآخر ينتظر ظلماً آخر بعد ظُلم , وبين هذا وذاك قيادة سياسية ترى , وترتقب , وتعلم , وربما تمد الأيدي في الأشياء , وبين هذا وذاك جهات نظامية تحتشد , هنا وهناك , وتطير من فوق الرؤوس , وشعباً ينتظر ما ستؤول إليه الأمور في هذه الدوائر المفرغة التي تعبث في مصائر البلاد منذ زمن , في المعارك التي لا ناقة له فيها ولا جمل , يترقّب , ويرتشف أكواب الشاي بعد إفطار الصباح , وربما يحب أن يضيف شيئاً في هذا المزيج المتداخل , فيقول " ربنا يستر واليوم ده يعدّي على خير ".
" محكمة .. بعد الاطلاع على الأوراق والمادة 381 من قانون الإجراءات الجنائية , قررت المحكمة , وبإجماع آراء أعضائها , إحالة أوراق كلٌ مِن..." , اكتملت الحشود في الشارع أمام النادي , وفتح كل من لديه راديو جهازه , وسكتت الأنفاس طمعاً في سماع همسات الأجهزة الصغيرة في الأيدي , أو الكبيرة في السيارات التي حالت بينها وبين الناس , الناس. بعدها بدقيقة , قفز الشارع كله من الفرح , وفرقعت الصواريخ , وقرقعت الزغاريد , وحضن كل من الناس , أخيه الواقف بجانبه , أخيه الذي لا يعرفه , وسالت الأدمع , وارتفعت الأصوات " 21 إعدااام " , وذُبت معهم في المشهد , فرحاً , ونطّاً , واحتضاناً , وغناءاً للنادي الذي ساع الحُزن والفرحة معاً.
ما أحلى أخذ الحق , رأيتها اليوم , رأيتها الحياة تدُب في قلوب الحزاني , رأيتها تلمع في دموع الأهل والأصحاب , بسم الله الرحمن الرحيم : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } , صدق الله العَظيم.




