الاثنين، 25 أغسطس 2014

من الشَرق الأوسط إلى الشرق الأقصى (2)

كيف يستطيع الحُب أن يُفجّر طاقات الإبداع ؟ وليس الحُب فحسب , ولكنه الحُب ذي المتاعب , كنت أتسائل ما إذا كان افتراضي خاطئاً , أي , ماذا لو لم تكوني روسيّة البلد , كيف علِمت أنا أن ما تتكلمينه روسي , وليس لغة من لغات أوروبا ؟ كنت عزمت على التعلّم والإتقان وحتى ترجمة هذه الرسائل إلى الروسية كي تصبح أسهل لكي في قرائتها , أعلم أنك لا تفقهي العربية ولا تسعي لتعلّمها , وقد فاتك في هذا الدرب أدباً , لو تعلمين , عظيم , لغتنا هذه لا أجد لها سبيلاً للمدح أو التوصية , فهي متوهجة بذاتها , هي التي تصف نفسها وليس الناس , بل أنني أرى أنه من الحمق أن يصف الناس إياها , أياً كان , سأشرح لكي الأمر عندما نلتقي مجدداً , وأعلم ما تذخر به لغتك من الآداب العالمية , وأسعى لقرائتها بلا شك , ولكن تعالي لنعود إلى موضوعنا الرئيس , كيف ترين الأمر ؟ لقد تعبت في معرفة نفسي وتقصّي أفعالها وتفسير مذاهبها وتربية ميولها , نفسي هي أكبر لغز في حياتي , كل يوم هي في شأن , يومٌ تكره وآخر تحب , يومٌ تواصل وآخر تجافي , يومٌ تطيع وآخر تتمرد , من أنا ؟ وما الذي يعتمل في صدري ؟ هل هو الضياع يمسك المرء فيهلكه ؟ أو هو الهدى الذي يأتي بعد الضلال ؟ أو هو الشبع الذي يأتي بعد جوع ؟ شبعت , فهل لن أجوع مجدداً ؟ بلى , لا يستطيع الإنسان منّا أن يعيش بدون الطعام والشراب , وكذا القلوب , لا تنبض بالحياة من دون الحُب , ولكن أي حُب ؟ هل هو الحب الذي نتمناه أم الحُب الذي ندركه ؟ كبيرٌ هو الفرق بين الحُبّين , فالحُب الذي نتمناه هو الحُب الذي لا نزال نسعى إليه طالما سِرنا في طريق الحياة , الحُب الكامل الذي إليه ترنو النفوس ولبلوغه تكون الحياة , الحياة التي تدور بنا وتدور وتدور إلى أن تقف , تُرى .. لماذا تدور بنا الحياة إذا كنا لا نسعى لشئ كبير , الشئ الذي يعطي المعنى لكل هذا السعي والتعب , الشئ الذي كالهواء الحُر نتفسه والماء الذي يسُر نشربه بعد شق الأنفس , والحُب الذي ندركه هو الحُب الذي نلقاه في الطريق , ولا نلقي له بالاً إلا بعدما نصل , فندرك أننا تركنا ورائنا الكنز , وأن الكنز كان في الرحلة لا في نُقطة النهاية , ومن أعظم ممن وجده فصدّقه فأحب وعاش , الحُب الذي نتمناه صورة , والحُب الذي ندركه جسدٌ قائم بذاته , الصورة جميلة لكنها صعبة الحِس , أما الجسد فهو أنت , وهو روحك التي تسكن فيك , وقلبك الذي يُرسل إليكَ الحياة , يا إلهي هل خلطت المعاني وأنا لا أدري ؟ أم أنها مخلوطة في الأصل ولا تحتاج منّي لترتيب ؟ أم أنني أحتاج لأن أعيد قراءة طوق الحمامة لابن حزمِ لكي أحدد أي حُب أحب , أو أي عجبٍ أعجب به.

وقد قرأت مقالاً لياسر حارب في كتابه العظيم بحق ( بيكاسو وستاربكس ) , بعنوان , ( الحُب والإيمان ) , وكان مما قال فيه : " الحب يا صديقي، صيرورة، لا تدرك كنهها.

كالنار والفراغ، كالروح والوجود، كالزمن والخلود، لم يستطع حتى ابن رشد أن يجد له حيزا. الحب هو النور الذي لا تحده الجهات الأربع، ومتى ما انبثق لا تعود للظلام ذكرى في سجل التاريخ.

الحب مثل الذكريات، يملي علينا ولا نملي عليه، يأتي إلينا ولا نذهب إليه، يقتلنا ولكننا نشتاق له. لا تهرب من الذكريات، فهي معك حتى وأنت تفارقها، وكلما ابتعدت عنها كلما اقتربت منك.

كن معشوقا ولا تكن عاشقا، فإن تعشق يعني أن تبحث عن الحب، كالذي يسعى أن يرسم فراغا في لوحته.. ياله من مجنون! كيف يمكنه أن يجد الفراغ؟ الحب هو اللاشيء يا صديقي، وبوجوده يوجد كل شيء، فبضدها تعرف الأشياء.. وبدونه تصبح الحياة هي الموت.

أتعرف ما هو الضد؟

 هو الشيء الذي تتحاشى أن تحصل عليه طوال حياتك، وإذا ما وجدته صدفة، تدرك أن حياتك كانت هباء قبله. كم هو جميل أن نجد أضدادنا في الحياة، فهم فقط من يجعلنا نسعى للكمال.

وهم أيضاً من يجعلنا ندرك أن الحب ليس في الجمال والسعادة فقط، بل أجزم بأن التعاسة هي فتيل الحب، فلولا رحيل خولة لما قال طرفة بن العبد:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد  ..  تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

أتعرف ما هي الأطلال؟

هي الأشياء التي نخاف منها ونسعى في سبيلها دون أن نشعر. هي الألم اللذيذ، هي الإشفاق على النفس والاستمتاع بشقائها.

هي الحب يا صديقي.. الأطلال هي الحب، فلا تقف عليها كثيراً. لا موت في الحب، كما أنه لا حياة فيه. الحب جدلي الوجود، لا يتحقق إلا بوجود العنصر وانتفائه، دون أن يجتمعا فيقضي أحدهما على الآخر. كالخير والشر، الروح والمادة، النور والظلام، والموت والحياة، تمأما مثل ضفتي النهر، تسيران جنبا إلى جنب، فإن التقتا توقف تدفق المياه وتحول النهر إلى بحيرة.

أتعرف ما هي البحيرة؟

هي نهاية الحب وبدايته. هي مزيج من كل التجارب التي مرت بها مياهها، من صخور وحفر، أشجار ونباتات، وهي لوحة كبيرة عملاقة، تجسد كل ما مرت عليه مياهها من صور ومناظر خلال سفرها الطويل، ولذلك يمكن تقدير عمر البحيرات ولا يمكن تقدير عمر الأنهار.

أتعرف ما هو السفر؟

السفر ليس الفراق، بل هو الانعتاق.. هو الانعتاق الأزلي من قشور الحياة والغوص في جوهرها. السفر هو اتحاد الجسد مع الروح من خلال البحث عن السعادة، التي هي أقصر طريق بين المرء وبين قلبه. السفر هو اللقاء الحميم بين العقل والفكرة التي لم تولد بعد.

أتعرف ما هي الفكرة؟

هي تجسيد لحياتنا الأولى، هناك في الأزل البعيد، في ذاكرة الكون، وفي أحلام الزمن. هي الحياة التي نتمنى لو أننا ننتمي لها حتى وإن كانت قاسية، فهي على الأقل تمثلنا نحن ولا تشقى بنا كحياتنا هذه التي نشقى بها.

أتعرف ما هي القسوة؟

هي رغبتنا في أن نكون مخلوقات أخرى غير البشر. القسوة زمن آخر، طويل قصير، نريده أن يستمر ويريد هو أن ينصرف. عندما نقسو نعود إلى طبيعتنا الرملية الأولى، التي يحيلها الماء إلى طين، ثم تحيله القسوة إلى حجر.

الحب هو القسوة يا صديقي.. هو القسوة، فلتحنُ على نفسك قليلا.

المحب يهوى الماضي ويخشى المستقبل، فالماضي بالنسبة له بقاء، والمستقبل فناء. أما الحاضر فإنه كالشفق الذي نعشقه بسرعة ثم نتمنى زواله حتى لا نسأم لونه ومكانه.

أتعرف ما هو المكان؟

هو حالة إنسانية يختصم فيها العقل والقلب، فالعقل يسعى دائماً لتأطير كل شيء وتحويل المحسوس إلى ملموس، أما القلب فإنه يؤمن بأن المكان هو كل ركن يصل إليه النور، ولا يأبه إن كان المكان موجودا أم لا. هل السماء مكان؟ السماء وجود نعلم أنه هناك ولا ندري أين، ولذلك، كان الإيمان السماوي محله القلب وليس العقل.

أتعرف ما هو الإيمان؟

يعتقد البعض أن الإيمان هو نقيض الشك، ولا يدركون أن الشك هو جزء من الإيمان. فعندما تشك فإنك تسعى لمعرفة الحقيقة، وعندما تجدها فإنك تجد الإيمان عندها. الإيمان حاجة كونية، نحتاجها لكي نحب.

لا يمكننا أن نحب من لا نؤمن بهم، ولكننا نؤمن بمن نحبهم. إن الحب الذي لا يمنحنا الإيمان بأنفسنا هو حب ناقص، لم يعرف طريقه إلى القلب. أليس الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل!

الحب هو الإيمان يا صديقي.. هو الإيمان، فلا تكفر به. "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق