الأحد، 16 سبتمبر 2018

فلما بلغ معه السعي قال يا بني


اخر رسالة لقيتها منشورة على المدونة وانا داخل اكتب كانت "أصدق في الأحلام، ولا يبدو أن هذا شيئاً يمكنني أن أغيره". مثير اني لقيتها قدامي وانا كنت داخل اكتب عن حلم، وفي طريق دخولي قابلت حلم، وانا بالإضافة للأحلام فانا بصدق في الإشارات كمان، وفي أغلب الأحيان بتّبعها.

قابلت آية العسلي على فيسبوك كانت ناشرة بوست ليها على فيبس بوست من سنة وكاتبة "Those were the days my friend"، ومن قبلها أمل وكذا حد كان بيفتكر تلك الأيام بالامتنان. انا بقى حلمت من كام يوم إننا رجعنا نتقابل ونشتغل في فيبس بوست تاني وكنا مبسوطين. الحاجة دي لما فكرنا فيها خرجنا بيها من وسط ركام اليأس، ولما عملناها كنا عارفين حدودنا ومقدرتنا. ولما التجربة دخلت في مطحنة الحياة خرجنا منها انا واحمد نبوي حاملين رضا شخصي بالمحاولة. رضا ممكن يخبو أو يلمع باختلاف الأحوال وسياقات التفكير ومرور الوقت. إنما مكنتش شايف بشكل شخصي - رغم امتنان المشاركين بالتجربة في ذروة نجاحها والتماعها - إنهم هيفضلوا محتفظين بنفس القدر من الامتنان بتجربة قصيرة وناقصة زي كدة، لدرجة التعبير عنها بإنها - باختلاف الألفاظ والمعبرين عنها - هي الأيام الحقيقية. قد كدة الحاجات الصغيرة ممكن - ولو مع الوقت - تسيب معاني كبيرة، زي بذرة ضئيلة بتسيبها في أرض طيبة. بتكبر كل ما الوقت يمر، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

وأما الحلم اللي كنت داخل اكتب عنه، فهو مش حلم حقيقي. تقدر تقول محاولة لمحاكاة الحلم. امبارح بالليل كنت بفكر في بابا، بس مع الوقت والنعاس خليته ييجي يفكر معايا ويساعدني، وقعدنا نتكلم، وكنا قاعدين على بحر اسكندرية بالليل والجو كان حلو وبابا كان بيضحك ونمت مرتاح. هل وعيي صنع كل ده؟ انا مكنتش نايم، انا كنت بفكر وبخلق حديثاً زي ما بيقولوا، بس ماعرفش حاسس في لحظة ما إن العجلة اللي كنت بحركها بإيدي فلتت من إيدي واتحركت لوحدها.. على الأقل لحظة، ومين اللي اختار مكان الحوار انه يكون على بحر اسكندرية؟ ده أكتر حاجة نفسي اشوفها من زمن، وده تقريبا اخر مكان كنا كلنا مبسوطين فيه في السفرية بتاعت نتيجة الثانوية.. في صيف 2011.

بمناسبة 2011، وبمناسبة اني هلقي حياة المدينة جانباً لحد 2020، فانا - وبدون اختزال او تهميش لتجربتي القادمة كجندي - إلا إني بشكل ما  حاسس اني بشارف نهاية هذا العقد من الزمان، كتجربة شبه مكتملة، لإن اللي جاي بعدها أزعم إنه هيكون مختلف عما سبقه تمام الاختلاف. تجربة كنت صغير في أولها وكبرت في آخرها. اختبرت فيها معاني الحب لحد ما زهدتها. هتفت فيها لحد ما اتكتمت. وجريت فيها لحد ما وقعت. عشت فيها لحد ما شهدت الموت. وكتبت فيها لحد ما نفد البحر. واتعلمت فيها لحد ما خدت الشهادة. وشفت فيها لحد ما عيني وجعتني. بقيت لما اخد الحقنة ابص على الدبوس وهو بيدخل وعلى الدم وهو بيخرج عشان ادرب نفسي على اعتياد الألم. وبالفعل تفعل الأيام في الإنسان أفعالها، وبيخرج من السنين كما لم يدخل، الأيام بتغير حاجات كتير.

مش عارف هدف من التدوينة دي غير اني اكتب، كتبت أكتر من حاجة الأيام اللي فاتت وبرضو مكنش ليها قيمة عندي غير معرفتي بإني جوايا حاجات عاوز اعبر عنها قبل ما تختفي. منها مثلا فكرة الاختفاء ده نفسه.. الأفكار العابرة بتعبر من فوق دماغنا ومش بتيجي تاني، المشاعر بتتغير كل لحظة واللي كنت هتقوله امبارح مش هتفتكر منه حاجة النهاردة لإنه تبدد في الفراغ. الصور الكتيرة اللي اتصورتها وماتعرفش عنها حاجة وجمعتك بناس ممكن ماتقابلهمش تاني احتمال كبير ماتلاقيهاش رغم انك عارف انك شفتها، وإنها هتفكرك بأيام ومشاعر كتير بذلتها في مسيرة قلبك.. من غيرها ممكن ينقص معنى من معاني حياتك المركبة. حياتك هي مجموع القيم اللي اختبرتها حواسك الخمس زائد مجموع الكلمات والصور اللي اعتملت في خيالك - والاتنين غير قابلين للجمع إلا على لوح محفوظ، على سطح عاكس، أصلب من الذاكرة الهشة.

هو يكتب ليحيا.. هكذا قال كيشو. هو واحشني بالمناسبة، كل الناس واحشاني بس انا من وقت طويل مش من مشجعي ان الناس تشوفني عشان انا عارف هم بيشوفوا ايه. 

إني أرى في المنام أني أبتسم، فانظر .. ماذا ترى؟

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

مفاجأة

كنت عامل لنفسي مفاجأة لما خرجت من كل اللي عدى عندي أمل في اللي جاي، فاجئت نفسي والناس اللي حواليا بعد كل وقعة كنت بقوم منها مبتسم وبسأل عالخطوة الجاية، بعد كل سنين ضيعتها وبقول اللي ضاع جوايا ماضاعش، بعد كل فرص أهدرتها وبقول اللي جاي أكتر، بعد كل حاجة كتبتها او فكرت فيها وعرفت اني ماعرفش وقلت محدش بيتعلم بالساهل، وبعد كل حب قتلته وقلت القلب مسيره يفرح والقلب اللي بيعرف يحب مابيموتش. كنت معدي في الأوضة حالق قرعة لما بابا قاللي ايه اللي انت عامله في نفسك ده؟ كنت متضايق عشان بيسألني وهو عارف اني داخل الجيش. لدرجة انه كان بييجي يقولي ان الجيش مش حلو عشان اتحمسله كدة. كنت متضايق عشان كان فاهم أملي في الخلاص حماس، كان خايف عليا وكان متفاجئ بدرجة الرضا والأريحية اللي كنت ماشي بيها وانا معلق على قلبي الأمل في أيام أحلى جاية من بعيد. بس ملك الموت كان عاملي مفاجأة أكبر من كل مفاجآتي. مفاجأة لسة كل يوم بندور على تفاصيلها. كل يوم بندور على اليوم العادي اللي مابقاش عادي ومفيش حاجة بقت عادية بعده. عملي مفاجأة قبل ما افاجئ بابا اني داخل الجيش خلاص، وقبل ما افاجئه ان أيام الجيش بتعدي زي اخواتها، وقبل ما افاجئه اني خلصت خلاص. وقبل ما افاجئه اني اشتغلت وبقيت مسؤول عن نفسي. وقبل ما افاجئه انه المفروض يطمن علينا خلاص ومايشيلش هم. وطلع عادي ان اللي يقع مايقومش، وان اللي ضاع مايتعوضش، وطلع صحيح ان القلب ممكن يموت. والعين اللي شهدت الموت ماعدش هيحركها بريق المفاجأة.

الخميس، 30 أغسطس 2018

المشي في أغسطس

ماشي
بنطلوني بيقع
في النسيج الكوني
بقع
حورس الفرعوني
سقع
رغم كونه بصحرا
واسعة
كنت قاعد بقرا
واسعى
وقلبت الصفحة
التاسعة
بعدها أظلم
نجمين
بعدها ماعرفتش فين
كنت كل ما احاول،
اغطس
والخراب كان طابق نفسي
ولما جيت افتح يا اغسطس
ماعرفتش ألمح أمسي
كل عمري كإنه دقيقة
بس موتك كان حقيقة
ماشي
وقتي بيتقاطر
ماشي
لغتي بتغترب
ماشي
رجلي بتنسحب
بغرق
ايدي مش طايلاك
بسرق
لحظة من ذكراك
يمكن
حلقة الوصل تكمل
وتتمد
انا قاعد هنا
وانت قاعد هناك
ومحدش احسن من حد
انا كويس
اطمن
وطمني..

الأربعاء، 4 يوليو 2018

الزوابع (3)

كنت أكرة في باب في أوضة
كنت تلج وداب في صودا
كل يوم في أي موضة
وأي لامع

اتحضنت وكنت قاسي
امتحنت وكنت ناسي
بعد صبر هروح لكاسي
ومش متابع

أي حلو أكلته ناكره
كل سوء لسة فاكره
لو كأني بنام مذاكره
وبصحى اراجع

جينا ناكل قالوا صمنا
جينا نقعد قالوا قمنا
قلنا ننعس قلقوا نومنا
في المضاجع

هما مين.. حد يعرف؟
اسأل الكاتب.. محرف
اسأل الشاعر.. مخرف
في الزوابع

كان بيكتب ورقه طار
كان بيحلم قرصه فار
ثم وصف الانبهار
بالمواجع

لو تقوله قصيدة سكة
لو تقوله ناقصة حبكة
لو تقوله يا رب مكة
مش ممانع

صار إلى أبعد مصاير
زي سمكة وزي طاير
ساعي زاهد في البصاير
والمسامع

الزوابع (2)

كنت ماشي في المتاهة
رجلي فوق راسي تحت
حاجة لخبطت اللي راسم
واما تاه، اتمسحت
بس عدت في وش باسم
خد ف ايده شهر نحت
بعد ثانية من القذيفة
هو مات، واتشرخت
كنت ماشي في الورق جنب الإله
حاجة لخبطت الروائي حتى تاه
ثم قال إن شيئا ما أتاه
واني في السرد المشوش، انفلتْت
كنت غيمة كبيرة واقفة في الظلال
عند نص الحلم في الزمن اللي طال
رن جرس الباب وفتحت عين طلال
روحي سكنت بيتزا سخنة واتأكلت
والتقطني من بولاق ايريال اذاعي
كان قصير بقى أطول من دراعي
كل تغيير لا يبالي ولا يراعي
والعجل بيدور بدون أي داعي
وانا من راديو لساعة ثم ساعي
أنقل الأشعار من البصرة لحيفا
وابقى ناعي للي ماتوا بالقذيفة
والرسايل لو تقيلة أو خفيفة
لو مضحكة أو مخيفة
ورق في الجيب
والحبر اللي اتشال مع السنين لا يرسم
إلا خط الشيب
وكل خط وكل جملة حدف عملة
حدف عملات
واللي بيسأل فين
كلها محلات
تحل فيها
بقايا اصوات
تُسمع تُقال
ونام طلال

الزوابع (1)

انا فرحان وسعيد
لابس بلالين العيد
وبطير جواها بموز
واتعرفت على الهوز
والهوز دي قبيلة عجيبة
عايشين على راس زبيبة
وبياكلوا جذوع الطيطن
والطيطن شجرة طويلة
تنمو على جسم فتيلة
والعة مع اعواد ديناميت
لما انفجرت صحيت

الاثنين، 2 يوليو 2018

إلا أن أبي كان سعيدا وقد خرج من الجمع لتوه، وكانت هذه المفاجأة كافية لإيقاظي

راودني حلم عن مدرسة لا أذكرها قمت بزيارتها بصحبة أمي سافرة الوجه، وقابلنا أستاذ لا أتذكره لكنه يبدو مألوفا، ومن العدم جاء حديثه بأنه نصحني في الثانوية العامة بالذهاب مع المخبر الفلاني للتقديم في العسكرية، فجاء ردي الصادم وقتها بأنه "بيتناك في البينش". صدمت لأن هذه لم تكن لغتي يافعا، بل لأن هذه لم تكن فكرتي عن المخبرين، كنت لم أزل حالما بالعالم الجميل. وفي وقفتي تلك رددت عليه بأن هذه لم تكن إجابتي وأنني أنكرها حتى ولو تلفظت بها، فمن الجائز أن يكون السياق هو القائل، ولم يكن لساني إلا وسيلة. فتحت عيني أفكر: ماذا لو كتب هذا السياق الغامض كل إجاباتنا؟ ومن أين دخل هيجل عقلي البكر؟ وما هو البينش الذي يتناك عليه المخبرون؟ لا أعلم لما كانت أمي غاضبة مني في ذلك اليوم، إلا أن أبي كان سعيدا وقد خرج من داخل الجمع لتوه، وكانت هذه المفاجأة كافية لإيقاظي، ولو أني تمنيت أن أعلم متى سأستعمل القنابل اليدوية الأربعة في شنطة ظهري.. ملحوقة.

الثلاثاء، 26 يونيو 2018

والعمل الصالح

الطريق مفروش
انت شايف؟
والكلام بيبوش
عالشفايف
والمحيط فيه قروش
وانا خايف
إني اجرب اعوم
ثم أغرق
اني اقع وأقوم
فأتزحلق
ان أملي يدوم
مناله بعيد
ان ايدي تمد
مالاقيش ايد
تمسك المعنى
وترفعه

الخميس، 7 يونيو 2018

وذهب أنس السمر

جئت إلى هنا في النهاية. هل هي اللحظة التي ينبغي أن أكتبها، أم هي اللحظة التي لابد أن أهرب منها حتى تنقضي؟ جئت في محاولة مني لإثبات أنني لازلت أستطيع ترتيب فكرة عاقلة في خيالي، أنني لست طفلاً سيتعلق بثياب أمه حتى لا تذهب، وسيبكي حين ينصرف الناس وتظلم الأضواء، أنني لست مراهقاً أدور في أفلاك النزق ولا أعلم عما يجذبني إلا أنني أقع صوبه فيمسكني شئ ما. تستطيع البلاغة تمويه المعاني لكن لا يستطيع الحزن رفض الأغاني. أعاتب دهراً لا يلين فمن يعاتبني؟ في نهاية الطريق تنظر فتبدو المسافات كأنها جديدة، كأنك لم تمشي ولم تقو قدماك يوماً، لم يتدرب قلبك على طول الصبر. تنفس. تنفس. لا أستطيع. المشاهد تتلاشى أمامي وأنا مقيد. الناس يقفون ويمشون وأنا مقيد. الشجر يروح ويجئ وأنا مقيد. لم يبقى لي من الفعل سوى المشاهدة. مشاهدة ماضي كان فيه من الجميل الذي لا يمكن أن يُنسى. وحاضر فيه من الوحدة ما يُثقل أي وجود. ومستقبل فيه من الظلام ما لا نستطيع فيه أن نرى شئ. أتلون وأغير جلودي أحاول اقتراباً من كل عالم، وفي منتصف الأحداث نسيت عالمي، تفرق بين الناس. لكنه لم يتبدد بعد. بذرة الأمل في قلبي رواها موسم مطير مر مني ولم يأتِ مجدداً. جذر عصي على الاجتثاث. أكتب لنفسي وأقول: لا تقلق، لا تقلق، كل شئ سيصبح على ما يرام.

العنوان من قصيدة: هوس الشعر (مايو 2010)

الخميس، 31 مايو 2018

هيثم

حلمت بمكان كبير مليان ناس داخلة وخارجة، قاعدة وواقفة، بتاكل وتذاكر، بتصلي وبتهزر، بتنام وبتعلب وبتتكلم، صغيرين وكبار، اخوان وملحدين، اعرفهم وماعرفهمش، ولاد وبنات، حوارات متشابكة وغامضة وطفل متعلق عالباب بيعرف يعمل باي باي للناس لما نقوله، وفرقة صغيرة حاربت الوحش السوري وهزمته ورجعت بأسامي الشهداء اللي كان منهم واحدة بحرف السين طلعت السما عند اللي معندهوش حاجة وحشة، وشفرة ماما اللي طلعت بتحمي لما مايتبقاش اي ساتر في اللحظة الأخيرة وبراويز لوح ضخمة بنقف جواها ونغمض ونستنى مفعول الحماية، وقايمة فيها اسامي كل الناس اللي بيدخلوا المكان وجمل بتعبر عنهم تعبير نهائي، مثلا كان فيه واحد مش عارف انه مالوش مدرسة، وكانت هي دي المرجعية، كل واحد ايه مدرسته في الحياة، اراضي واسعة وكلاب ووحوش وهجوم ودفاع ومغناطيس نفعنا لما كل حاجة مانفعتش وعصير عنب وعنب وتفاح ورضا وزعل وانتظار، هي دي الجنة ولا النار؟ وسمعت هيثم، الساعة بقت 4 وانت نمت كتير، وصحيت، فتحت التابلت وفكرت ازاي هفتكر، وكتبت: حلمت بمكان كبير مليان ناس داخلة وخارجة، قاعدة وواقفة، بتاكل وتذاكر، بتصلي وبتهزر، بتنام وبتعلب وبتتكلم، صغيرين وكبار، اخوان وملحدين، اعرفهم وماعرفهمش، ولاد وبنات، حوارات متشابكة وغامضة وطفل متعلق عالباب بيعرف يعمل باي باي للناس لما نقوله.

الخميس، 12 أبريل 2018

تأملات (7) : كل دالة لها دليل



تعرف تتخيل حياتك من غير مرايا؟ غريبة صح؟ احنا كل يوم بنبص على انعكاسنا في المرايا مرة عالاقل ونقرر اذا كان شكلنا النهاردة حلو ولا عادي ولا مش فارقة، اذا كنا راضيين المرة دي عنه ولا لأ. تخيل بقى حياتك من غير مرايا في يوم؟ عادي صح، اكيد شكلك مش هيختلف اوي عن اليوم اللي قبله. طب اسبوع؟ اصعب شوية.. طب شهر؟ طب سنة؟ هتبدأ تنسى شكلك وتدركه بس في عيون الناس وانطباعاتهم لما بيشوفوك.

انت ككائن حي ليك وجود شكلي وعندك وسيلة بتدرك بيها الوجود الشكلي وهي العين، بس الوسيلة دي جزء منك مش هتقدر تخرج من سياقها وتدركه، وليك وجود جوهري وعندك وسيلة بتدرك بيها الوجود الجوهري وهي الروح، بس برضو الوسيلة دي جزء منك مش هتقدر تخرج من سياقها وتدركه. المرايا قدرت تعكس شكلك عشان تشوفه، بس لسة لم يوجد شئ يقدر يعكس جوهرك عشان تحسه، فبتتحسسه طول الوقت من إدراكات الناس المحيطة، زي ما كنت بتحاول تفهم شكلك لما المرايا اختفت من حياتك فجأة.

ايه اهمية انك تعرف شكلك وجوهرك اصلا؟ لإنك طول الوقت بتتعرف على الوجود اللي حواليك بس انت مش موجود فيه، فانت طول الوقت محتاج تحس انك موجود فيه، بما يعوض انك مش قادر تشوف وجودك او تحسه بالظبط، بس عالاقل لاقطه من عيون واحساس الناس هنا وهناك، من زوايا مختلفة قدرت تكون فكرة عن خارجك وداخلك - فكرة صحيحة او حتى خاطئة، وقدرت ترسم خيال لنفسك في الوجود ده وكأنك موجود فيه بلا شك.

بتحس احيانا ان الناس في الشارع مش واخدة بالها منك؟ كإنهم متعمدين يتجاهلوك كلهم؟ كإن العالم أدار لك ظهره في اليوم ده؟ مش بتقول كدة؟ بس بيتولد عندك احساس بالاستنكار والغضب إحساس عايز يعلن عن وجودك في العالم وبقوة كمان، فبترجع تبص في المرايا وبتنزل تاني يوم وكل الناس بتبص عليك كإنهم بيقولولك صباح الخير وكإن العالم صالحك وبتبقى مبسوط انك موجود في عالم كل الناس دي وبالضرورة في عالمك انت.

ايه اللي يثبت انك عظيم او عادي؟ سعيد او حزين؟ ذكي أو سئ الحظ أو مرهف الحس أو غاضب أو حابب أو متفاءل أو ضعيف أو مؤتنس؟ ايه اللي يثبت انك شفت صورة جميلة او شاهدت فيلم مؤثر أو التقطت فكرة مختلفة؟ ايه اللي يثبت انك شهدت صدفة غريبة او حلمت حلم مثير او قدرت تخطط لأيامك الجاية؟ ايه اللي يثبت ان الموسيقى لمستك او الأيام وحشتك أو الكلمات خذلتك؟ ايه اللي يثبت ان كتابتك شعر او ان حكايتك سر او ان عملك متقدر او ان سعيك متفسر؟ ايه يثبت ان الأكلة كانت حلوة او ان الرحلة كانت ممتعة او ان النهاردة اجمل من امبارح او بكرة ممكن يكون احلى او ان فيه لحظات في عمرك اغلى؟ مفيش اثبات على اي حاجة غير بإثبات الوجود نفسه لروحك مع ارواح الناس، بس بطريقة مختلفة عن طريقة الأشكال اللي بتعتمد عن الرؤية عن بعد. وهي تعارف الأرواح وائتلافها.

الناس هي مرايا الناس، اللي بتثبت وجودهم وحالاته. ومفتقد المرايا دي مش هيقدر يشوف ولا يحس بنفسه احساس حقيقي. هيضطر يفترض، والافتراض ده ممكن يبقى صائب أو خائب، حسن أو سئ، يقربه للناس او يكرس عزلته، على حسب خبرته السابقه وتفكيره وانطباعات الناس عنه وانطباعاته هو عن الناس والسياق الموجود فيه.

"ولا لون للماء فيما يقال .. ولكن تلونه بالأواني"
ابو العلاء المعري

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ}
[الأنبياء:30]

السبت، 7 أبريل 2018

نسيان

سهم الحب قاسي
بس انت اقسى
عايز درع مقاسي
قد يصد فأسا
الأفكار في راسي
قولي قبل مانسى
انا ضيعت كاسي
ولا شربته خلسة؟

الأربعاء، 4 أبريل 2018

فانتازيا الثورة : الملحمة التاسعة



مرت الأعوام كسابقتها. هل أقول أشد وطأة؟ لم تعد المبالغات تعني شئ. فقد تجمد كل شئ ماعدا الزمن الذي لابد أن يذهب ولا يعود. ظل الجنرال يعلو أكثر فأكثر. تضاعف مريدوه ولمعت صورته وصار ذكره محبوباً ومرهوباً معاً. لم تعد السخرية منه مقبولة في الأوساط الشعبية كيفما كان. ومن تحته حكومة قوية لها اليد الطولى في إقرار كل شئ نيابةً عن الشعب. لم يعد الناس يتذمرون من الزيادات الدورية في أسعار السلع والمواصلات. يقولون "غلي بجد؟ طب كويس اني عرفت" ثم يكملون طريقهم. تخرج قوات الأمن في حملة أمنية كل فترة يذهب فيها من يذهب. العين الحمراء لا يمكن أن تغمض طويلاً لئلا يظن بها الناس النوم فيصحو هم. هم لا يصحون أبداً. صار اختفاء الأصدقاء قضاءاً وقدراً يستجلب دعوات من يعرفونه بألا يتم إيذاءه. صار بيع الأراضي والمنتجعات وتأجير الأماكن السياحية والمتاحف للدول الخليجية وبعض الدول والشركات الصديقة في الخارج أمراً طبيعياً. يحفز الـ"ميمات" الساخرة من حين لآخر فيضحك الناس، ثم يضعوا شواحنهم في هواتفهم ويناموا. زادت الوجوه الإعلامية وتنوعت وتطورت مناهجهم في إقناع المواطن. هم يعلمون أن لكل فئة خطابها، ولا يخطئون في ذلك أبداً. أخذ الأمر شكلاً أكثر احترافية، وارتبطت مؤسسة الرئاسة بشركات عالمية للتنظيم والدعاية والعلاقات العامة. وأصبح من وراء الرئيس جيشاً من الشباب من خريجي الجامعات المحترفين في المجالات المختلفة، يهتمون بكل تفصيلة وتلمع عيونهم أمام فرص الصعود في السلم الوظيفي لهذه الكيانات الكبرى وأن ينالوا من العلاقات والمكانة الاجتماعية ما يحفظ لهم أمانهم في مستقبل سعيد: وظيفة عالية الأجر في شركة عالمية لتنظيم مؤتمرات الرئيس، وعلاقات كافية مع أسماء معلومة وأخرى سرية تكفي لإخراج كل معارفهم من أي ورطة. كان الحدث السياسي الأبرز في هذه الفترة هو الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2020، وكانت المنافسة فيها على أشدها بين نواب الرئيس المخضرمون، ووجوه جديدة تتطلع إلى فرص ذهبية لإظهار مواهبهم في دعم الدولة المصرية. شن المخضرمون حملات عديدة لتشويه هؤلاء الصاعدين لأخذ كراسيهم التي أخذوها بالجهد والعرق. من غيرهم دعم الرئيس منذ لحظة ظهوره الأولى وقت أن كان العالم كله يسير ضده؟ من غيرهم تحمل حملات التشويه والسخرية من فلول الثورة المصرية قبل القضاء عليها تماماً؟ من غيرهم أعلن عن دعمه لمصر والوطن والدولة في أكثر من مناسبة؟ من غيرهم صرف عشرات الآلاف من الجنيهات لحشد الناخبين في دائرته للوقوف صفاً واحداً وراء مصر؟ من غيرهم ملأ الشوارع بلافتات الدعم والتأييد في طول مصر وعرضها، كأنها رواسي أن تميد بكم، فلم تسقط مصر كما اُريد لها! الآن يأتي هؤلاء الشباب "الملزق" لكي يمثلوا الشعب بكل بساطة! وفي المقابل التقط هؤلاء الشباب المثقف الخيط سريعاً، وصاروا يتكتلون مع بعضهم البعض في كل محافظة، حتى أفضت هذه التكتلات إلى كيان موحد سمي بائتلاف شباب الدولة المصرية، وبدأوا في شن حملات مضادة على كل من يقترب من أحدهم، حتى خاف البعض من مواجهتهم علناً قائلاً أنه سعيد بالمنافسة الشريفة، وأن الشعب سيختار من يثق في وطنيته التي لم يخفيها في أحلك الظروف. ثم بدأ التصويت، وعلى عكس انتخابات 2015، فقد كانت نسبة المشاركة هذه المرة عالية، إذ انتشر أعضاء حملة ائتلاف شباب الدولة المصرية في كل منطقة، يحدثون الناس عن البرامج والقوانين التي ستغير حالتهم، ويسألنوهم أين كان المخضرمون من خمسة أعوام فاتت وأنتم تكابدون معاناة مستمرة ومتزايدة فلا يتذكركم أحد إلا في المناسبات؟ لاحظ المخضرمون اللعبة وبسرعة شديدة وظفوا شباباً من كل منطقة بأجور عالية في حملاتهم الانتخابية لكي يقوموا بتنظيمها ونشرها بين الناس لمواجهة دعاية ائتلاف شباب الدولة الملزقة. فنزل الفريق الآخر بدوره يحدث الناس عن أن الفترة السابقة كانت فترة التخلص من أعداء الدولة، وأنهم يحضرون العمل الآن لفترة البناء والتعمير، وأن ذلك يستلزم أن يصبروا وأن يتيحوا لهم الفرصة كاملة، وألا ينسوا جميلهم في حماية الأوطان. ثم - وهم قادرون على ذلك - غمزوهم بفرص جديدة للتوظيف في المصالح والهيئات الحكومية المحلية، أو للقيام بترشيح أبنائهم في انتخابات المحليات ودعمهم، أو للحصول لهم على فرص تدريب في الشركات العالمية في مؤسسة الرئاسة، والعديد من "الخدمات" لأهل الدائرة، ولم لا وهو موجود من أجل خدمتهم؟ المهم أن النتيجة جاءت تعادل تقريباً في نسبة تمثيل كل من الفريقين في المجلس. وعندما انتبهت "الأجهزة" إلى كارثة قد تحدث إذا اختلفت الفريقان، عقدوا سلسلة من الاجتماعات المكثفة مع قيادات كل من الفريقين للوصول لأرضية مشتركة وتذويب الكتلتين في كتلة واحدة من أجل مصر، وأن الرئيس تابع بنفسه ما حدث أيام الانتخابات وأعرب عن "قلقه" من أن يؤثر هذا الاختلاف على الدولة، وأنه لن يسمح بذلك، فهم الفريقان على الفور أن الرئيس يلوح بورقة حل مجلس النواب، فوافقوا فوراً على التكتل الجديد، واختلفوا على التسمية، ثم توصلوا لأن تكون تسمية وسط بين ائتلاف دعم مصر وحزب كلنا معاك من أجل مصر وائتلاف شباب الدولة المصرية فأسموه ائتلاف دعم الدولة من أجل مصر ثم أسموه "دعم" تسهيلاً. ولاحظ الجميع أن هذا البرلمان أقوى من سابقه، الذي وصفه البعض من أعضاء "شباب الدولة" سابقاً ببرلمان الأيدي المرتعشة، مما أفضى إلى توترات طفيفة سرعان ما قمعها مرتضى منصور رئيس المجلس الجديد، الذي كانت تكفي نظرة واحدة منه لأن يتنازل عضو عن طلب كلمة أو يصرف نظره عن طلب إحاطه لوزير صديق. انطفأت لعبة السياسة ومتابعتها سريعاً وكان أول قرار لمنصور منع البث التلفيزيوني لجلسات البرلمان ثم استمر كل شئ تحت القبة كما هو العهد بها ومر الزمان كما هو العهد به. على الجانب الآخر كانت الحركات المعارضة تحاول من حين لآخر تصعيد الحس السياسي للناس إلى مستوى السخرية أو الاعتراض كما كان يحدث من قبل بلا جدوى. وحاولوا أكثر من مرة إعلان اتفاقهم على الوحدة من أجل تغيير النظام، لكن مع الهجمات الإعلامية والإلكترونية الشاتمة أو الساخرة ينتهي كل شئ وذلك بعد اختلاف الرفاق على توقيع أحدهم أو على صياغة أحد بنود الوثيقة. استمرت محاولات الملائمة، من بقايا أحزاب وحركات، من مثقفين وأدباء، من أساتذة جامعة، وكل شئ كان ينتهي إلى لا شئ. يعود أحمد ليعبر الطريق إلى مدرسته الثانوية ليسجل الحضور. وتهبط ميرفت إلى المترو حاملة حقائبها الثقيلة بعد يوم عمل وشمس حارقة. وينتظر مجدي محطته في حلوان عندما ينزل الناس جميعاً إلى المحل البعيد. ويصعد الليل فوق المقهى ليرسل إلى الشباب نسيماً رطباً يليق بماتش الأهلي وطنطا، فيمتزج مع رائحة الشيشة فانيليا كريز. كل ذلك حدث قبل ديسمبر 2021، وخصوصاً قبل احتفالات رأس السنة التي دعى إليها مرتضى منصور وعدد من قيادات المجلس في سهرة خاصة أقامها عدد من أمراء الخليج في الفور سيزونز بالقاهرة. فقد بُغت منصور عندما سأله الأمير محمد بن أحمد عن تحضيرات الدولة والمجلس للانتخابات الرئاسية القادمة. وفي ظهر يوم السبت 1 يناير 2022، طرح مرتضى منصورعلى المجلس موضوع التعديل الدستوري في مادة تحديد مدد الرئاسة "لعدم وجود من يصلح لتولي منصب الرئيس القادم في الفترة العصيبة التي تمر بها مصر". عاد ائتلاف شباب الدولة المصرية للظهور مرة أخرى والإفصاح عن تحفظهم وسعيهم للنقاش. عندها اشتعلت النيران في أعين مرتضى منصور واندهش نصف المجلس الآخر من هذا الكلام الصادم الذي يُقال داخل مجلس النواب عام 2022. فأصدر قراراً بفصلهم جميعاً. حينها حرك محامون تابعون للائتلاف عدة دعاوي ضد قرار المجلس ورئيسه في المحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية، فقضت الأولى ببطلان قرار الرئيس، الذي عاد في الجلسة التالية ليجدهم جالسين أمامه، وفي أيديهم توقيعات عزله من رئاسة المجلس. عُزل مرتضى منصور من رئاسة مجلس النواب واشتعلت معركة جديدة بين المخضرمون والشباب على ما الخطوة التالية؟ رئيس المجلس من المخضرمون بالطبع لكن ماذا سنفعل في الموضوع الذي عُزل على إثره مرتضى منصور؟ على الناحية الأخرى قاد مرتضى منصور وبعض أصدقائه الإعلاميين معركة إعلامية شرسة ضد مجلس النواب ككل "الذي اخترقته العناصر الإرهابية حتى تمكنت منه". فأصدر النائب العام قراراً بفتح التحقيق في الاتهامات بالإرهاب وهدم الدولة والسعي لقلب نظام الحكم وبدأت نيابة أمن الدولة العليا التحقيق على الفور. وانتهت التحقيقات إلى اختراق المجلس وخيانته للقسم الدستوري. وأصدر الرئيس بتاريخ الجمعة 14 يناير 2022 قراراً بحل مجلس النواب. ثم أصدر قراراً بتعديل المادة 140 من دستور 2014 والتي كانت "يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة." لتصبح "يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة ست سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه، ويجوز إعادة انتخابه." وذلك بتاريخ الثلاثاء 25 يناير 2022، ويُنشر في الجريدة الرسمية.

انتهى.

*فانتازيا الثورة: الملحمة التاسعة*

الثلاثاء، 27 مارس 2018

تأملات (6) : المرأة وكروت اللعب والدهشة القاتلة


في المجتمع الذكوري، وجود المرأة بيبقى وجود مدهش: وجود مثير للدهشة. مش بس دورها، لكن وجودها الحسي نفسه، ممثلا في ظهورها بشكلها الطبيعي. عشان كدة بيندهش لو شاف أنثى بشعرها، بيندهش لو شاف أنثى في العربيات المختلطة في المترو، لإن وجودها لازم يكون جوة الهامش بتاعها في عربيات السيدات، حيث لا تقتل الدهشة أحد. بيندهش لو شاف بنت قاعدة على القهوة رغم انها بقت بيته التاني. بيندهش لو شاف بنت بتشرب سجاير رغم ان صدره اسود من الدخان. بيندهش لو شاف بنت بتشتم رغم ان لسانه اتوسخ من الشتيمة. بيندهش لو شاف بنت أصلا وبيفضل باصصلها ككائن غريب لابد من التعرف على ملامحه جيدا وتفحص كل شبر من جسمه.

الذكر عشان يتعامل مع الموقف ويحد من الدهشة اللي أنتجها وجود المرأة داخل مجتمعه الذكوري، بيلجأ لإنه يدخل وجود المرأة داخل وجوده الشخصي، وبالتالي على المدى الطويل هيتم الحفاظ على وجود المجتمع الذكوري من الدهشة المميتة. الذكر في ده بيحاول يستغل الوجود الإضافي للمرأة داخل وجوده بتعزيز وجوده ده، كجزء من المجتمع الذكوري، سواء بإظهار القدرة على التحكم فيها، أو باختراق المرأة التابعة لذكر آخر، وبالتالي اختراق وجوده. فهنلاقي إن الأب الذكوري بيفخر ببنته اللي ماشافتش الشارع، والشاب الذكوري بيتباهى عند صحابه بالبنات اللي موقعهم وممشيهم وراه، وهنلاقي على الجانب الآخر أغلب السباب الموجه بين الذكور وبعضهم بيكون بالإتيان على ذكر المرأة وأعضاءها والتحقير من شأنها، اللي بينصرف للتحقير من شأن الذكر نفسه، القابل للاختراق من خلال أعضاء أمه أو شرف اخواته.

المرأة في ظل المجتمع ده بتلجأ لمساحة الاختيار الوحيدة المتاحة لديها، لإن من غير التحكم ده وجودها داخل المجتمع الذكوري معرض لكافة انواع التهديدات، بتواطؤ من كامل المجتمع. المساحة دي بتكون اختيار مين اللي هيتحكم. هتختار الأب اللي عمره ما هيئذي ولا الحبيب اللي هيديها حاجات جديدة مش عند الأب؟ هتختار الظابط ولا المهندس ولا التاجر ولا المحامي المتقدمين لطلب "إيديها"؟ كل واحد ليه فكر مختلف وطريقة تحكم مختلفة. هتختار الإسلامي المتدين الخلوق اللي هتطمئن للدنيا والآخرة وهي معاه ولا هتختار العسكري القوي اللي هيحميها وياخدها تحت دراعه من اللي عاوزين يهددوها أو "يقيدوها"؟ لكن أي تفضيل بيكون تفضيل لقيد على آخر. أي اختيار المرأة بتختاره في المساحة دي بيحدده تكوينها الشخصي، والخروج من مساحة الاختيار دي مابيكونش موجود إلا قليلا.

المرأة بتتربى في المجتمع الذكوري على إنها ظاهرة. ظاهرة متسقة مع طبيعتها المثيرة للدهشة. ولذلك بيكون الاحتفاء بيها داخل المجتمع على سبيل الاحتفال. فهنلاقي فيه اندهاش وبهجة من مشاركة المرأة المصرية في العملية الانتخابية، وفيه عام للمرأة، يتبعه عام لذوي الاحتياجات الخاصة، وفيه احتفاء بنسبة تمثيل المرأة في الحكومة والبرلمان، وفيه تكريم للأمهات المثالية في عيد للأم. مع إن كل الحاجات دي على الناحية الأخرى بيقوم بيها الذكر، الفرق إن وجود الذكر في المجتمع وجود طبيعي، إنما وجود المرأة وجود مثير للدهشة دائما. المرأة بتتربى على إن مالهاش في النهاية غير بيتها وجوزها، على إنها تحب اللي يقولها بعد دهشته انتي ماينفعش تشتغلي انتي تقعدي في بيتك زي الأميرة وماتحمليش هم حاجة. بيتها بيكون هو ده مجتمعها اللي مسموحلها التأثير فيه، وفي المقابل الذكر بيسيبلها المساحة دي إمعانا في التفريق بين الدور الخارجي اللي هو منوط بيه، والدور الداخلي اللي هي تتحمله. عشان كدة بتتحول الأم في مجتمعاتنا لبطلة وليها عيد أم بينما مفيش عيد أب زي ما موجود في بعض المجتمعات، ولا فيه الاحتفاء المبالغ فيه بدور الأم، لإن الأم - زي الأب بالظبط - دورها متقسم عالمجتمع والحياة الشخصية، ومابتتحولش هي نفسها لجزء من الحياة الشخصية لكيان تاني، عشان كدة مش بيكون فيه داعي ملح للاحتفاء بدورها في البيت والتربية ودعم الرجل أينما كان، ولا بيكون فيه داعي للاحتفال (والاندهاش) بتمثيلها في الوظائف السياسية وغير السياسية، لإن لو ليها دور فعلا مش هيطلع الذكر كل شوية يقولها انا مبسوط ان انتي جنبي ومعايا، لإن المجال العام مش مجال للحب والمؤانسة، لكنه مجال للقيام بأدوار ووظائف محددة تتطلبها مصلحة الأفراد في المجتمع. ومن نوادر دور المرأة كما يتصور جزء لا يستهان به من الوعي الجمعي، إعلان كريم عبدالعزيز اللي بيقول فيه اللي يساعد واللي يشيل واللي يعمل، وطبعا الستات هتزغرط. وحسين الجسمي وهو بيقول عن المشاركة في الانتخابات "اللمة دي لمة رجال" اختصر كلام كتير ممكن يتقال. ومن مظاهر الدهشة غبطة حكيم الكبيرة وهو بيقول "الست دي تتشال عالراس" عشان شاركت. ما هي لمة رجال لكن ست؟! أحلى ست دي ولا ايه؟

المجتمع الذكوري بيتربى على إن المرأة جزء منه، بس ماينفعش تبقى جزء مستقل، لإنها لما تكون جزء مستقل هتبقى مستباحة من بقية الذكور الذكوريين اللي هيسعوا دائما للسيطرة عليها، علشان كدة بتنشأ سلطة ذكورية عمومية هي المتحكمة في وضع المرأة ككل، السلطة دي عشان تحمي المرأة (التابعة كفكرة عامة) بتغطيها بطبقات، تحجبها عن دهشة الذكور، وبالتالي عن محاولة السيطرة عليها، وهي طبقات من الوجود اللي الذكر بيتمتع بيه، بتبدأ تتدرج من عدم النزول من البيت، عدم الاندماج في المجتمع، عدم الكلام مع الغرباء، عدم الصوت العالي، عدم الضحك، لبس يغطي كل شئ، لبس يظهر الوجه والكفين، لبس طبيعي، وصول البيت بالليل، الدخول في علاقات، شرب الدخان، إلى آخره. الطبقات دي هي اللي بتحمي المرأة من تصور المجتمع الذكوري عنها، بس هي من الهشاشة بحيث إن أقل حاجة بتصدر منها ممكن تأثر على التصور ده، وتوقعه زي أحجار الدومينو، وتحطم كل طبقاتها الهشة وتعريها في عيون المجتمع. عشان كدة الراجل يلعب بديله. لكن البنت تبقى ماشية على حل شعرها. يعني الراجل بالنسبة له أي حاجة ممكن تتعرف في إطار اللعب، إنما البنت كل همسة بحساب عسير. عشان كدة لما علياء المهدي اتحدت السلطة الذكورية واشتركت في وقفة نسوية عارية في أوروبا أسقطوا جنسيتها، يعني خرجوها من اعتراف المجتمع أصلا. وكذلك لما بدا لحكام المجتمع إن مشروع ليلى بتساهم في انتشار أفكار ممكن تهدد البنية الذكورية للمجتمع (الذكر فوق، الأنثى تحت) وتلخبط المفاهيم دي عند الناس وبالتالي تلفت انتباههم لتكويناتها أصلا، وقفوا حفلاتها في مصر.

وده بيدفعنا للإشارة لمكانة المرأة داخل العقلية الذكورية، ككيان مفعول به، ككيان ضعيف ككيان ناقص "عقل ودين"، وبالتالي ماينفعش المجتمع الذكوري يتشابه معه في أي حاجة. "الواد ده شعره طويل شكله خول"، "مفيش راجل بيعيط"، "انشف خليك راجل". فلما يتم ذم الرجل بيتم ذمه بتشبيهه بالمرأة أو ابتزازه بالتصور ده، بينما لما يتم مدح المرأة بيتم مدحها بالرجل، "ست بس بميت راجل". وعلى مستوى أبعد بيتم تعظيم القوة المادية كشكل من أشكال القوة الذكورية، فلما يتحط العسكري المسلح قدام المدني أبو شعر طويل هيتم احترام العسكري المسلح أكتر من المدني أبو شعر طويل بغض النظر عن اللي جواهم. فعلى المدى البعيد بيتم تقديس القوة في المجتمع أيا كان شكلها، وإسناد الضعف لأي شئ آخر خارج قيم المجتمع الذكوري.

في السياسة زي في المجتمع، بيتم استخدام المرأة يإما لتعزيز قوة الذكر الأول من خلال إظهار تأييده منها أو لاختراق الذكر الآخر باختراق المرأة التابعة له. فمن ناحية هنلاقيها ماشية في القسم الخاص بالسيدات المتشحات بالسواد في المظاهرة ورا الرجالة ضد الانقلاب وبتهتف للنخوة والشريعة والدم. ومن ناحية تانية هنلاقيها هي أكثر المتحمسين لقوة البدلة العسكرية وبتهتف بحب القائد البطل. بس من وجهة نظر منافسيهم هنلاقي انهن في الأول بيتقذفوا بجهاد النكاح على الشاشات، وفي التاني بيتقذفوا بالرقص والدياثة على الإنترنت. وبتبقى هي دي صورتهم في عيون الذكوريين من الطرفين.

أنا تفرعت لأفكار كتير وتقريبا كلامي مكنش مترتب كويس إنما انا عاوز الناس عالأقل اللي بتقول ان عندها مبادئ وأفكار ماتنجرفش لمستنقع تحقير المرأة المتبادل حاليا واستخدام صورتها لتشويه الخصوم، لإن بتفكير بسيط وطبقا للمنطق الذكوري المذكور لو عممناه محدش هينجو منه، وهيقولك زعلان من البنات اللي بترقص قدام اللجان، طب وريني كدة البنات اللي بترقص في الحفلات، بغض النظر ان الأولانيين بيتم استغلالهم استغلال مش نضيف وسمعت ان بيتم دفعهم لنقل الصورة دي، وده بيكرس وضع المرأة في المجتمع كظاهرة وككارت محطوط عالترابيزة للي يعرف يزايد عالتاني، طبعا ده على المستوى السياسي، على المستوى الاجتماعي بقى ياريت نراجع تصوراتنا وماننجرفش برضو لتأطير المرأة في جزءها الصغير من اللوحة الذكورية الكئيبة، ونكف عن تقاليد عيد الأم وعيد المرأة وتعالي يا أستاذة هقوملك عشان ماتقفيش وسط الناس وانا الراجل وانتي مسؤولة مني وتعالي عالحرف عشان انتي محمية طبيعية وروحي اركبي عربية الحريم وغطي شعرك وبتعرفي تطبخي ولا لأ وكل الكلام الفاسد ده. ماينفعش نبقى بننزل الشارع كل يوم وبنشوف ونسمع نفس المظاهر ومانطورش أي آلية لفهمها ونفضل بس نرمي انتقاداتنا وأحكامنا وأحيانا شتايمنا وتناقضات مبادئنا على الناس يمين وشمال. أفكارنا ومواقفنا هي اللي هتصنع شكل المجتمع اللي جاي، فياريت نخليه أحسن وأعدل شوية بالأفعال وبالاحترام الحقيقي للكل وبالعدالة مع الجميع كإننا من جنس واحد ونبطل كلام فارغ، أكيد وقتها الدنيا هتبقى أكثر احتمالاً.

الأحد، 25 مارس 2018

رسالة في محاولة الإفلات

ازيك؟ عاملة ايه؟ بقالي كتير مكلمتكيش ايوة، بس ده لا يعني اني مش عايز. لاحظت حاجة بس وكان نفسي اسأل سؤال صغير. انتي ايه اللي عجبك في اخر حاجة كتبتها؟ مش بسأل عشان افتح حوار اكون فيه الفنان الملهم وانتي المشجعة. انا بسأل باستنكار لإنه مش عاجبني اصلا، وكونك شفتيه فده يقلق، وكونه عجبك فده يلخبط. كإني كنت لابس اوحش لبس عندي وانتي قلتيلي ايه الشياكة دي. بس انا على طول لابس اوحش لبس عندي، لإن مفيش غيره اصلا. وفي الكتابة برضو مفيش غيره. وفي كل حاجة مفيش غيره. حاسس بإفلاس، لا لو الناس تجاهلتني يعجبني ولا لو اهتمت يعجبني، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ومفيش حاجة بالتحديد هترضيني غير الصدف الحلوة بما فيها لما مزاجي يروق أو لما اكتب حلو أو لما احب بجد. انا مش سعيد باللي بيحصل بس ده مش معناه ان الحياة وقفت. الحياة مش المفروض تقف عند الحاجات الوحشة. لإن تقريبا كل الحاجات طلعت وحشة والحلو هو الاستثناء واحنا اللي مكناش فاهمين. بس هنفهم امتى؟ الإنسان اللي بنحارب عشانه عشان هو أهلنا هو نفس الإنسان اللي طالع عين أمه في سجون في بلاد مانعرفش ننطق أساميها. ولو ركزنا هنطلع عنصريين في مبادئنا. لو مش هنكمل حياتنا عشان اخواتنا في الدم ومبدأنا سليم يبقى المفروض مانكملش عشان اخواتنا في السلالة. بس ده مش هيحصل وكله هيكمل بخيره الصغير وشره الكتير لحكمة ما. على فكرة ممكن لو لخبطنا الأماكن نطلع احنا أشرار وولاد ستين وسخة كمان، مين عارف؟ ماحنا امبارح كنا بنحب ودلوقتي بنكره، ايه اللي في قلوبنا ماينفعش يتغير؟ انا باكلمك عشان انا حاسس اني المفروض اكون وحش في عينك لإن انا وحش في عيني، ولو المعادلة دي اتكسرت هاضطر اعيد بناء التصور من الأول وانا مافياش حيل ابني صور. اديكي شفتي ازاي خيالي كان فقير من يومين، واضح اني صرفت كل اللي كان متبقي الأيام دي في الكام تدوينة اللي كنت بحاول افهم منها ازاي كل الناس دي وحيدة. يلا مش هعطلك. أشوفك بخير. أنا حتى مش واثق في نص الكلام اللي كتبته هنا، بس مش عاوز ارجعله ولا ارجع في رأيي ومابعتش، اديني عالاقل بحاول اوصل لأقرب حاجة شبهي، بس مش عارف ليه كل مافتكر اني قربت للنهاية اكتشف اني لسة محتاج ابدأ من الأول. من شوية كنت بفكر ان أول قصيدة كتبتها في أول ديوان ليا كانت هي الغلطة اللي أدت لكل التراكمات دي وإني محتاج اعيد تأسيس عالمي من البداية عشان مشاهده ماتتنافرش مع العدسات اللي على عيني. وكان على عيني اكون احسن من كدة، بس يمكن ابقى.. يمكن.

السبت، 17 مارس 2018

الكيفيات (8) : كيف كانت الوحدة من الداخل؟ (3) : في التكثيف والفناء



في الفضاء الهندسي، إذا أردنا تعيين نقطةٍ ما، فإننا نقوم بتعريف قيمها في المستويات الثلاثة التي تشكل الفضاء، أي أنه لكي نقوم بتعريف نقطةٍ ما، فينبغي علينا تعريف ثلاثة قيم تمثل كل قيمة منهم موقعها في أحد هذه المستويات. وإذا أحلنا هذا الأمر إلى الفضاء الإنساني، فقد تتعدد المستويات التي يمكن من خلالها تعريف الناس، بتعريف مواقعهم منها. وإذا كنا قد افترضنا ارتسام الخطوط التي تجمع بعض النقاط من الناس، فإننا لم نفسر لماذا قد تجمع الناس طرقاً بدون أن تجمعهم قلوب، ولماذا قد يحقق الإنسان حل الوحدة بالتغيير ولا يخرج منها، وهذا الطرح هو محاولة للاقتراب.

فنقول إن هذا الخط الذي افترضناه سلفاً سيتشكل بتعيين النقاط التي من مواضيعها هذا الموضوع (الدراسة، العمل، الصداقة، العائلة، الثقافة، السياسة، الفكرة، الفن،...). ولكننا نجد زملاء في الدراسة أو في العمل، وأبناء للأسرة وللعائلة، وأصدقاء في المجموعة وشركاء في الأفكار، تتباين الدرجات بينهم تفضيلاً أو عزوفاً أو بينهما، وقد تصل بالطبع إلى العزوف التام، وبالتالي لن يجمع بين أصحابه (إذا استثنينا الظروف الأخرى) سوى الوحدة. وهنا تعود المشكلة مجدداً.

لماذا نفضل بعض الأصدقاء دون غيرهم؟ نحبهم؟ نعم، ولكن في هذا السياق بالذات، كيف نقوم بتعريف الحب؟ نعود إلى التصور الهندسي من جديد لكي نتمثل المسألة. فإذا كان لدينا خطاً يتكون من عدة نقاط، فكيف تكون العلاقة بين هذه النقاط غير علاقة متوالية؟ أي أنه لا يمكن استكمال هذا التصور بغير معرفة أن هذه النقاط توالي بعضها بعضاً، وبالتالي فبالنسبة لنقطة ما، تختلف المسافات بينها وبين النقاط الأخرى بقدر عددهم، وهنا تُحل المسألة. فهذا الخط الحُر في الفضاء الإنساني المُفترض، يجمع عدد من النقاط عرّفتها قيمها في المستويات الافتراضية المذكورة سلفاً. وبالتالي فكلما اقتربنا من هذه النقطة، نقترب أيضاً من القيم التي تمثلها، وكلما ابتعدنا عنها كذلك، نبتعد عن القيم التي تمثلها. ولذلك يكون من نحكم عليهم بالقرب من قلوبنا، مشتركين معنا في مستويات من التفاهم والتواصل (والتعارف) بكثافة أكبر مما هي مع الآخرين. وكلما زاد هذا الاشتراك، أي كلما قصرت المسافة، أي كلما اقتربت القيم بين النقطتين، كلما تبددت وحدة كل منهما، حتى تنعدم إذا كادا يتلامسان، فيصبحان مرآة لبعضهما البعض، وهنا يحدث ما يقول عنه درويش "ولستُ أنا مَنْ أنا الآن .. إلاَّ إذا التقتِ الاثنتان ِ : أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ .. يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ .. ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا .. عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ .. لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ" (محمود درويش، لاعب النرد). فقد قرن الشاعر بين الذاتين (إذا التقت الاثنتان)، التي لا تتعرف إحداهما إلا بهما، لكي يحل السماوي في الجسدي، وهو الحب. وسنجد كذلك أن هناك حباً صوفياً يتجاوز معاني القرب إلى ما دونها، فيقول الحلاج "عَجِبْتُ منكَ ومنّي .. يا مُنيَةَ المُتمَنّي .. أدنَيْتَني منكَ حتى .. ظَنَنْتُ أنَّك أنّي" (الحسين بن منصور الحلاج).

وبالتالي يصبح الحب هو رؤية الذات (جزئياً أو كلياً) في المحبوب "والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبّـك مقـرون بأنفاسي .. ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي .. ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحاً إلا وأنت بقلبي بين وسواسي .. ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكاسِ" (الحسين بن منصور الحلاج)، واعتباره بالتالي جزءاً منها، فهي لا يكتمل وجودها (إلا إذا التقت الاثنتان)، ولذلك يصف البعض انفصال المحبوب كانفصال القلب أو الروح "وتذهبُ بالأشواقِ أرواحنا منا" (مدين بن الغوث). ثم تتوحد الذات مع الآخر "لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ .. فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ .. وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ .. وألواحُ توراة ٍ ومصحفُ قرآنِ" (محيي الدين بن عربي، أدين بدين الحب)، فهو لم يعد يراه ولا يعرفه إلا من خلاله. وبأخذنا هذه الأشكال الكثيفة من الحب والائتناس، إنما نسوق الدليل على قيامه بمدى الاقتراب من الذات من حيث هي، أي مما تُعرّف هي به.

وبالتالي، عودةً إلى ما سألنا سابقاً، يتوقف ائتناس أحد الناس بوجود من يرى فيه صوراً من نفسه عن قرب، قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وذلك يعني أن النفوس قريبة من البداية، وأنها تسكن إلى بعضها - بالمعنى الجنسي والإنساني أيضاً - عندما تكون "منها" ، وهذا جواب السؤال الأول. وأما جواب السؤال الثاني، فإن الإنسان الذي تسير حياته مساراً جيداً بلا رفقة، إنما لم يجد بعد من يرى فيه نفسه، قريباً أو صديقاً أو رفيقاً أو مُحباً.

"خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
وطني.
هل تحسّ العصافير أنّي
لها
وطن ... أو سفر ؟
إنّني أنتظر ...
في خريف الغصون القصير
أو ربيع الجذور الطويل
زمني.
هل تحسّ الغزالة أنّي
لها
جسد ... أو ثمر ؟
إنّني أنتظر ...
في المساء الذي يتنزّه بين العيون
أزرقا ، أخضرا ، أو ذهب
بدني
هل يحسّ المحبّون أنّي
لهم
شرفة ... أو قمر ؟
إنّني أنتظر ...
في الجفاف الذي يكسر الريح
هل يعرف الفقراء
أنّني
منبع الريح ؟ هل يشعرون بأنّي
لهم
خنجر ... أو مطر ؟
أنّني أنتظر ...
خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
كان يهملني من أحب
و لكنّني
لن أودّع أغصاني الضائعة
في رخام الشجر
إنّني أنتظر ..."
(محمود درويش، هكذا قالت الشجرة المُهمَلة)

الثلاثاء، 13 مارس 2018

الكيفيات (7) : كيف كانت الوحدة من الداخل؟ (2) : في التشتيت واللقاء



يمكن أن تتواجد مواضيع يتحرك فيها الإنسان لكنه يشعر بالوحدة، كطفل لا يجد من يشاركه اهتمامه بمتابعة رياضة ما، أو كمراهق انخرط في متاهات الحاسب الآلي ولا يجد من يرافقه، أو كشاب يقضي أيامه ولياليه في الأفلام والمسلسلات وحيدا حتى مل، وهنا لا تكون النقطة بعيدة عن بقية النقاط في خطها بقدر ما تلتزم حركة أكبر لحصول الوصول، ويتطلب ذلك أن تتحول النقطة من محطة استقبال فقط إلى محطة استقبال وإرسال، وحيث أنه لكل فعل رد فعل حسب قانون نيوتن الثالث، فطالما وجدت رسالة سيوجد المرسل إليه، حتى لو لم يظهر لسبب ما. ولكن ذلك مرهون بمحتوى الرسالة كذلك.

 وقد يوجد اجتماع في العمل والأسرة أو التنظيم ولا توجد جماعية، كأن يكون العمل منفرا فلا يمكن أن يصبح موضوعا مجمعا، وهنا قد يتنافر العمال أو يمدون طرقا جديدة للتواصل على أراض مشتركة بينهم، كالكلام في الحياة، وإذا ثبتت الأخيرة عند أحدهم فلا مفر من وحدته بينهم، وكذلك اذا توقفت اختلافات وتغيرات الحياة في الأسرة عند أحد أعضائها فلم يعد هناك ما يتحدث فيه، أو إذا ركد التنظيم على افراده وتوقفت مياه الإبداع فيه عن السريان، أو إذا ظنوا أن السياسة أغلقت في وجوههم فلم يعد هناك سوى إعادة إنتاج الشكوى من الواقع الراسخ، فلا مفر من انفضاض الجمع.

 وإذا استقر أمر الإنسان في وحدته فسيذهب هذا به إلى الهلاك أو المرض أو الجنون أو التعايش أو الإبداع في حالات قليلة. ويتمثل الهلاك في الإقدام على الانتحار، والمرض في الاكتئاب والأمراض النفسية، والجنون في النسخة الأقسى من هذه الأمراض والتي يمكن تمثلها في الشوارع فيمن نسميهم "المجذوبين" الذين غرقوا في وحدتهم. والتعايش سنتطرق له لاحقا .وفي الحالة الأخيرة يمكن أن يحول المبدع وحدته إلى تعبير صارخ، وإثبات للوجود في وجه العالم، كحيلة للخروج من الوحدة بالدخول في الجميع من أبواب سرية، فلا تكون الوحدة وقتئذ بالنسبة للمبدع واطئة أو حتى محسوسة، فقد أتاحت له فرصته التوحد مع كثير، ولو على مستوى آخر غير مرئي، لكنه يستطيع التقاطه.

 وبعد ظهور الإنترنت في نسخه الاجتماعية، أصبح من الممكن دائما وجود موضوع، ولو بشكل افتراضي. أصبحت المواضيع شبه مفتوحة للانخراط فيها، وأصبحت الرسائل عامة في إنتاجها وإعادة إنتاجها حتى تستنفذ وتستبدل برسائل جديدة حسب السائد والمنتشر. حتى أن الذوات نفسها تحولت إلى مواد للتموضع، وأصبحت هذه الديناميكية ضامنة لتكذيب أثر الوحدة الحقيقة بجماعية مصطنعة اصطناعا، ومتحولة إلى ملجأ شبه دائم لكل الهاربين من أثرها المر، إلى السكر بنبيذ الشتات الأكثر مرارة، لتتحول حياتهم إلى وحدة في الواقع، وشتات في المفترض.

 وإذا كنا اتفقنا أن التغيير لازم لنقض الوحدة، فينبغي القول بأن التغيير ينبني على ثلاثة معارف: معرفة حاضرة، بالموضع الذي نحن فيه، ومعرفة ماضية، بالموضع الذي أتينا منه، ومعرفة مستقبلية، بالمواضع الافتراضية التي يحتمل أن نذهب إليها، وثلاثتهم في العقل: فالأولى محلها التفكير، والثانية محلها الذاكرة، والثالثة محلها الخيال، وبغياب أحدهم تغيب القدرة على التغيير الواعي لموضع أفضل، فلا يمكن القفز من الماضي إلى المستقبل بلا علم على أي أرض نقف، أو بلا آلية للعمل الحاضر أصلا، ولا يمكن التحرك خطوة بلا معرفة بالخطوات التي أدت بنا إلى هنا، ولا يمكن التحرك أصلا إذا توقف العقل عند الحاضر وإتمامه بلا أي أفق لتجاوزه.

وإذا كان التفكير (كآلية عقلية) لا يحتاج أمثلة للدلالة على أهميته في القيام بالفعل - أي فعل - والذي يؤدي إلى التغيير - أي تغيير. فكلا من الذاكرة والخيال يحتاج. وفي تمثيل دور الذاكرة في التحرك الإنساني، يقول فؤاد حداد "أقولك الحق واضرب لك مثل ساير .. وان كنت ماعرفشي لا اخبي ولا اساير .. من صغر سني وأنا صاحب مزاج ثاير .. واكمني ثاير لا يمكن يا ألف بائي .. تلاقي زيي على عهدك أليف باقي .. واكمني ثاير بقول من فات قديمه تاه .. لابد للحي يترحم على موتاه .. واللي أتى بالجديد لولا القديم ما أتاه .. يا أمَّتاه أنا ابنك عالأثر ساير" (فؤاد حداد، ديوان المسحراتي)

وفي تمثيل دور الخيال، فإذا كنا استددلنا سابقا بالآية {حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فنعود هنا ونشير إلى الطبيعة التغيرية للنفس كما وردت في القرآن، فيقول تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ويقول في موضع آخر {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118]. أي أن النفس تضيق وتتسع. وفي الآية الأخيرة ارتبط الضيق {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بالتخليف، أي الترك، فارتبط الضيق بالوحدة. وقال الشاعر "لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا .. ولكنَّ أَحلامَ الرِّجالِ تَضيقُ" (عمرو بن الأهتم المنقري). فآل ضيق البلاد بأهلها (كما ضاقت الأرض بما رحبت) إلى ضيق أحلام الرجال، أي خيالهم، الذي هو أحد محركات التغيير، والخروج من ضيق الوحدة إلى رحابة الجماعية.

ينبغي البحث عن هذه المحركات الثلاثة (الذاكرة، التفكير، الخيال) الدافعة للتغيير الذاتي - الذي يؤدي بالضرورة للتغيير الجماعي، والتحول من وحدة الإنسان إلى جماعية الإنسان/وحدة المجتمع.

وإذا توفرت المحركات الثلاثة، ووجدت المواضيع، ولم توجد الذوات المناظرة، فسيؤدي ذلك إما للبحث عنها، أو للارتداد داخل تصور موازي للعالم كقطب آخر مناظرا للذات كقطب أول، وتحدد العلاقة بين القطبين شكل الحياة، فيكون العالم فاسدا أو عبثيا أو مجنونا أو جميلا أو ظالما أو منسجما أو خاطئا أو متشكلا بتصور معين (قد يتغير) للفرد عنه، وعلى النظير يكون الفرد إما متماهيا أو مسالما أو ساخطا أو ساخرا أو محبا أو كارها أو لا مباليا أو غاضبا أو متحديا في حالات قد تتغير باستمرار أو قد تثبت. تمثل أشكال الحياة سابقا الذكر التعايش كنتيجة محتملة لوحدة الإنسان. لكن كما يظهر، فإن النتائج الخمسة المحتملة (الهلاك، المرض، الجنون، التعايش، الإبداع) متداخلة وغير واضحة الحدود. فيمكن اجتماعها جزئيا كما اجتمع المرض والتعايش في جوناثان نويل بطل رواية الحمامة للأديب الألماني باتريك زوسكيند، أو حتى كليا كما نرى في حياة الشاعر الألماني فريدريك هولدرلن مثالا (ستيفان سفايغ، بناة العالم 1). والوحدة في هذه الحالات متوازية إذا توفرت المحركات كما في حالة الشاعر وإذا لم تتوفر كما في حالة البطل.

لكن بما أننا وصلنا لأن توافرها لازما، فينبغي تصفية الجوانب السلبية للارتداد. فأما الهلاك، فلكي نقاومه، وهو الموت حتى إذا لم يكن جسديا، سنضع أمامه الحياة، والحياة لا يتم دفعها إلا بالحب - في معناه المطلق. وأما المرض، فتكون مقاومته بالصحة، كما يمكن تمثلها بالرياضة والممارسات الصحية. وأما الجنون (وهو عدم السيطرة على العقل أو التصرف بدون وعي) فتكون مقاومته ابتداءاً بالتعقل والتحكم إزاء مختلف تجارب الوعي والعمل على توسيعه ليشمل المزيد من الظواهر خارج الإنسان وداخله.

لنحاول استعادة ذاكرتنا، تصحيح تفكيرنا، إنارة خيالنا، إحياء الحب في قلوبنا، الاهتمام بأجسادنا، والوعي بأحوالنا، فلا تضيق بنا الأرض بما رحبت، ولا تضيق علينا أنفسنا.

تَضِيقُ بِنَا الدُّنْيَا إِذَا غِبْتُمُ عَنَّا * وَتَذْهَبُ بِالأَشْوَاقِ أَرْوَاحُنَا مِنَّا
فَبُعْدُكُمُِ مَوْتٌ وَقُرْبُكُمُ حَيَا * فَإِنْ غِبْتُمُ عَنَّا وَلَوْ نَفَساً مُتْنَا
نَمُوتُ بِبُعْدِكُمُ وَنَحْيَا بِقُرْبِكُمْ * وَإِنْ جَاءَنَا عَنْكمْ بَشِيرُ اللِّقَا عِشْنَا
وَنَحْيَا بِذِكْرِكُمُ إِذَا لَمْ نَرَاكُمُ * أَلاَ إِنَّ تِذْكَارَ الأَحِبَّةِ يُنْعِشْنَا
(أبو مدين الغوث)

الكيفيات (6) : كيف كانت الوحدة من الداخل؟ (1) : في التفكيك والبناء



لم يخلق الله أي شئٍ وحيد. إذا تأملت الإنسان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]، الحيوان {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]، النبات {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3]، الجبال، وحتى الكواكب والنجوم والمجرات، رجوعا إلى الإلكترونات والذرات {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49]. لن تجد تقريبا شئ إلا وله نظير ومكافئ. ربما يفسر ذلك التأكيد في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، ونفي النفي في قوله: {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، أي مكافئ. 

فهذه هي الطبيعة الجماعية (الاثنينية) لكل موجود. وإذا كان بني آدم هو المفضل على كثير من خلق الله فينبغي بالضرورة أن يظهر الفضل فيه في جميع أجزاؤه: العقل، الروح، الجسد، ففضل العقل في التصور والقدرة والإرادة، وفضل الجسد في أحسن تقويم، وفضل الروح فيم أشار إليه حديث النبي: ((الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما)، وفيها نجد القيمة الجماعية للإنسان، في روحه التي تأتلف مع نظائرها التي تتعارفها - ولنرجع هذا اللفظ إلى معناه القرآني في الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وهو يعني التواصل مع الآخر سواء الآخر الجنسي "ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ .. إذا التقتِ الاثنتان ِ : أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ" (محمود درويش، قصيدة لاعب النرد)، أو الآخر الإنساني. ونعود فنقول، أن هذه الجماعية (الاثنينية) جزء لا يتجزأ من الإنسان، فلا يستقيم أن يعيش الإنسان وحيداً. 

وجماعية الإنسان (أو عدم وحدته) مشروطة كما ورد بالتعارف: التواصل، والتواصل يعني الوصول المتعدد، والوصول يتطلب نقطتين بينهما طريقا، أي أن شرط التعارف وجود طريق بين الإنسان وبين كل الذين يأتلف معهم، فتكون الوحدة بالتالي هي انقطاع هذه الطرق. 

ومعنى وجود نقطتين بينهما خط أن كلتاهما تقع على هذا الخط، الذي ربما تقف عليه نقاط أخرى. كلتاهما تنتمي إلى هذا الخط. وإذا كان الأمر كذلك، فالنقطة الواحدة أيضا شريكة في خطوط كثيرة، مع نقاط أكثر عليها. وحتى لا تأخذنا هذه الصورة أبعد مما نريد، نعود فنقول أن الخط هو موضوع النقاط، والنقطة هي ذات الخطوط. وبالتالي أصبح الموضوع يتكون من ذوات كثيرة، لولاها لما وجد. فكيف نتحدث عن مشترك بين لا شئ؟ 

إذن، فلكي تقر جماعية الإنسان، وتدحض وحدته، ينبغي أن يكون مشتركا مع نظرائه في مواضيع تمثل لقاءهم وتواصلهم. فالمحبين موضوعهم الحياة المشتركة، والدارسين موضوعهم العلم، والمتفقهين موضوعهم الدين، والمثقفين موضوعهم الثقافة، والمتسيسين موضوعهم السياسة، والأهل موضوعهم البيت والمستقبل، والعاملين موضوعهم العمل، والأصدقاء موضوعهم الحياة الحاضرة والآتية، وتتعدد وتتجذر الموضوعات بين الإنسان ونظرائه المتختلفين، وحتى لو أصبحت هذه المواضيع هي حياتهم نفسها (في حالة الأهل والأصدقاء والعشاق).

وطالما كنا نتحدث عن الوصول بين نقطتين، فهذا يعني أننا نتحدث عن تحرك متخيل لهما (بينهما)، وإذا كنا نتحدث عن الحركة فيقول قانون نيوتن الأول للحركة: "الجسم الساكن يبقى ساكناً والجسم المتحرك يبقى متحركاً مالم تؤثر عليه قوة ما". وهذه القوة يمكن إحالتها للتغير. أي أن كل من النقطتين تتطلب تغيرا ما يدفعها لإعادة الوصول (التدفق) من جديد. وإذا لم يحدث ذلك؟ ستظل كلا النقطتين ساكنتين وسينقطع التواصل وسينفض الطريق. 

وذلك يعني مبدأيا أن كل نقطة ينبغي أن تكون في تغير باستمرار حتى تحافظ على الخطوط الموصولة بينها وبين النقاط الأخرى، وما لم يحدث ذلك تسكن وتنقطع صلاتها وتتوحد حتى تختفي من الوجود (بالنسبة لبقية النقاط) وتظل على ذلك ما لم يحدث تغير وتعيد الارتباط في خطوط جديدة مع النقاط المناظرة مرة أخرى. 

ونتيجة ذلك أن حل الوحدة يبدأ من التغيير الذاتي المستمر. فإذا لم يكن هناك تغييرا في حياة أسرة البيت سيشعر الفرد بالوحدة في الأسرة، وإذا لم يجد جديد عند الأصدقاء سيشعر الفرد بالوحدة بينهم، وإذا سكنت حياة المحبين لن تبقى أجنحة الحب معلقة في الهواء "كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه" (ابن عربي، رسالة ما لا يُعَوَّل عليه)، وإذا نضب خيال السياسيين لن تظل المسيرة مجتمعة، وإذا ظلت الأرض تجذب الساكنين لن تظل البلاد متسعة {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فجماعية الفرد (نقض وحدته) تنتج من تغيره المستمر، وتؤدي إلى وحدة المجتمع، لأنه أصبح بها فقط "مجتمعاً". ولا يوجد مجتمع ولا إنسانية من أناسٍ وحيدين.

الجمعة، 9 مارس 2018

فكرة في غير محلها حتى افتتاح محل

أنا هدخل على الأدب نوع أدبي جديد اسمه شبه القصيدة، يعني كلام ينفع يبقى ليه معني وينفع يبقى ليه لحن بس لا ليه معني ولا ليه لحن وفضل كذلك بين فتور الكاتب وفضول القارئ وتحفز الناقد لحد ما تراكمت عليه أجيال العيون وقام بذاته والناس حبته

في الهزائم التي لا يراها أحد


بوظت مدينتي اللي كنت بنقل منها المشاهد بانتصار واتهزمت لما افتكرت ان حرقها هيولدلي الدفا، دلوقتي استعمرت صخرة من الحطام ومش لاقي طريق ممهد ارجع منه، مسجون بالظبط في الحتة اللي كان بيهرب منها، لا عارف يرجع لسجنه الأصلي ويجرب يحفر من جديد ولا عارف يصدق انه كل ما يجرب يمشي في جنته يقع على حاجات متكسرة كانت قبل كدة لوحاته وتماثيله. غمض تاني عشان يدور تاني على خرم اسود يهربه بس لما غمض شاف الكل سواد وماعرفش يلاقي الثغرة وسطه. جرب يعيد ترتيب الحطام أو يعيد تلفيقه اكتئب. دور على أمل في الأفق الأزرق اللبني يبصله ويتعلق، بس أول ما بص اتزحلق وعرف إن خطوته قريبة، نظرته زايغة، روحه مغيمة، إيده مرتعشة رغم جريان الدم في اللحم زي جريان الحبر في القلم. كل ما ترسم ماتصيبش الفكرة الأولى لكن ترتد لمساحة أضيق على النفس من الحيرة. غلبني البرد والحر واتحججت بالخير والشر إني الاقي بيت اسكنه مالقتش غير بيت قلته وهديته وماخرجش من ودني صدا التكسير.

الثلاثاء، 27 فبراير 2018

ستاير من ليالي فبراير

هو ليه الوقت ضيق مش واسع؟
ليه الحقيقة مرة مش حلوة؟
ليه العالم قاسي مش حنين؟
ليه العقل زينة ومش ملون؟
ليه الأرض طينة والسما صافية؟
ليه بكرة لينا والنهاردة ليهم؟
ليه بنمشي ومابنوصلش؟
ليه خيالاتنا مابتحصلش؟
ليه مع بعض أقوى ولوحدنا أضعف؟
ليه كل سواقين الاتوبيس اسمهم أشرف؟
ليه بنخاف من أي امتحان؟
ليه بنكره الناس واحنا إنسان؟
ليه الوقت بيجري وبيسحلنا؟
ليه السلطات فاكرة الشعوب أغبيا؟
ليه الشعوب فاكرة الشيوخ أنبيا؟
ليه الشيوخ فاكرة الجيوش أدعيا؟
ليه الجيوش شايفة الحياة أبنية؟
ليه الحياة صعبة مش عادلة؟
ليه ستاير كتير لسة منسدلة؟
ليه الصراحة راحة بس ليها تمن؟
ليه حلم ييجي في لحظة ياخد زمن؟
ليه لما كلنا متنا عاش الوطن؟

الاثنين، 19 فبراير 2018

عن الحكمة والكفاية


الحكمة هي العلم بمقادير الأمور، فالحاكم يقدر السلطات والثروات (السياسة هي التخصيص السلطوي للقيم)، والحكم يعلم الحد بين الصواب والخطأ، والحكيم يعلم مقادير الخير والشر، ولذلك سمي الطبيب حكيما، لأنه يعلم مقادير الدواء التي تشفي ومقادير الدواء التي تقتل، فأولها خير، وثانيها شر، رغم أن جوهرهما واحد. وذلك يعني أنه متى أوتى أحدهم الحكمة، فقد أوتى مقادير الكفاية، وقد أوتي خيرا كثيرا. ذلك أن خيره كامل، لن ينقلب بعضه شرا. أي أنه من الحكمة أن تعلم متى تكتفي مما تظنه خيرا، بعلمك المقدار الذي من زاد عنه قل، ومن سار بعده ضل: متى تتوقف عن الأكل، عن الشراب، عن النوم، عن اللهو، عن اللغو، عن الكلام، عن الصمت. أن تعلم متى يصبح عملك كافي فكل ما تعمل بعده يأخذ ولا يعطي، متى تصبح محاولتك مستوفاه فكل ما بعدها إهدار، متى يكون دورك محقق فكل استمرار بعده ابتذال. والابتذال كان بذلا لكنه زاد، وليست كل زيادة إضافة، فالمطر خير لكنه قد يزيد فيستحيل شرا ويغرق بشرا. والبشر غارقون في أيامهم، لا تظهر منها رؤوسهم كي يتوقفوا ويسألوا عن معنى الاستمرار. نستمر دائرين في دوائر لا نستطيع أن نرى غيرها، بل لا نستطيع أن نرى أصلا، غير أضواء متسارعة ومتداخلة كانت مشاهد. نستمر حتى ينفض الجمع ولا نشعر، تنفك الأيدي ولا نشعر، تهتز الأرض ولا نشعر، يقترب النجم ولا نشعر. ندور حتى نكسر الجاذبية، ندور معلقين في سمائنا وحيدين، ندور حتى نستحيل أفلاكا، يشير إلينا الناس بالدهشة فنخجل من الإعجاب. نبتعد بقدر صدقنا في السعي، ونظن أن البعد راحة. لا راحة في الانفصال عن الذات ولو فصلنا باب الجنة. لا معنى للحياة بلا تجربة ولا تسمى التجربة تجربة بلا نتائج ولا نتائج بلا نهاية. لا معنى للحياة بلا بدايات ونهايات مستمرة وكل استمرار غير ذلك موت. فعيشوا!

الأحد، 18 فبراير 2018

سأخبرها

سأخبرها بأنني لم أقرأ كتاباتها الشغوفة، وأنني لن أقرأها حتى إذا كان وقتي يسمح. سأطلب منها أن تسامحني على ذلك، وأن تغفر لي شرودي الدائم في فكرة هربت من بين يديَّ وجُننت أنا من ورائها، أن تتجاوز عن يأسي الذي أسميه أمل، عن غضبي الذي أسميه عمل، وعن كل شئ سميته بغير اسمه كي أنقذ ما تبقى من روحي بغير سقوط. سأخبرها أنني أحبها وأنني أستطيع احتمال حبها إذا كنا في عالم يقيم للحب اعتباراً. سأخرج عن صمتي لألوك المواضيع اليومية وآخر مستجدات الأحداث بالحماسة نفسها. سأرتب المواعيد لكي أذهب فيها مع من يريدون رؤيتي لكنهم نسوا شكلي. فقد تغير شكلي ليس لأن شباب وجهي استعجل عجزه عن الابتسام، لكن لأن ما أنار في عقلي لم يكن إلا من بقايا الأحلام، والآن قد فتحت عيني، ويا ليتني ما فتحتها، فأنا أراكي الآن جمالاً كأنما حاكته خيوط الحب التي ترسلها عيناكي. لكنني لا أراها إلا وأرى فيها انعكاسي مقتولاً، يحاول، وما يفزعني في قتلي ومحاولتي، أنني رأيتهما معاً.