في عام 2019 , ظهر في الأفق محل يدعى Dogs Control , والذي ترجمته " الكلاب تحكُم " , لم يكن في الأمر ريبة , فقد كان محل صغير يبيع الكلاب تأسس في 3 يوليو 2017 , ولكن الغريب في الأمر , هو الصيت الذي حققه هذا المتجر في شهور معدودة , ففجأة ضجّ الفضاء الإلكتروني بكل الأنواع من الكلاب التي يستوردها هذا المتجر , وفجأة وجدنا إعلاناته على الشاشات وفوق الكباري وفي الميادين المهمّة , وقد أصبح مبنى قائم بذاته يأتيه الناس من كل حدبٍ وصوب يشترون الكلاب والحيوانات الأليفة المختلفة بعد أن وسّع نشاطه , ثم افتتح فروعاً في أنحاء كثيرة من القاهرة الكبرى والمحافظات المهمّة.
في يوم 2 مايو 2020 , فوجئ الناس بمسيرة حاشدة من الثوريين , لا يعلم أحد من أين جاءوا ولا كيف نظّموا أنفسهم , وقد كانت الفعاليات الثورية خمدت تماماً منذ 25 يناير 2015 , حتى النظام نفسه ذُهل كيف يجرؤ أحد على النزول مرة أخرى , ذهبت قوات الأمن المركزي سريعاً إلى مكان المسيرة , ولكنهم رأوا ما لم تصدّقه أعينهم , فقد كانت المسيرة متحركة في شارع طلعت حرب , من دار القضاء العالي , باتجاه ميدان التحرير , وفي مقدمة المسيرة بأعدادها الضخمة , عدد مماثل من الكلاب!
" الكلاب تحكم " : منظمة سريّة تأسست في يوليو 2017 تحت غطاء تجاري تهدف لقلب نظام الحُكم , وقد اجتذبت أعداداً كبيرة الثوريين المُحبطين تحت لواء فكرتها الغريبة , الصادمة , في غمرة تعاملاتها التجارية واتسّاع شبكة المتعاملين معها من الشباب وصورها في كل الشاشات والشوارع , إذا كنت ثورياً فلتأخذ كلباً مجاناً , ولكنّك من الآن عضو معنا في المنظمة , تتبع نظامها الصارم وتحركاتها بدقة تامّة وحرفية فائقة. كان هذا بنداً من بنود ورقة الشروط التي يمضيها الثوري للالتحاق بالمنظمة بعد إجراء العديد من الاختبارات التي تثبت عدم انتمائه للنظام من قريبٍ أو بعيد.
المسيرة تتحرك , والكلاب من أمامها , والشرطة تقف في ذهول , والثوريون يكسبون الوقت المُهدر في فرق الفِهم بين عساكر الأمن , ويتقدمّون , ثم يقتربوا , ثم يأمر اللواء : أطلقوا الناااار!
لم يكن صعباً على الثوريين الهروب من رصاصات النار , ولكن الصعب , كان اختيار عساكر الأمن المركزي بين الأمرين : إمّا أن يستمروا في إطلاق النار ثم تأتي الكلاب فتأكلهم , أو أن يهربوا من هذا الموقف الجديد , ويستطيعوا تبرير ذلك فيما بعد بعدم التدرب على هذا الموقف. كانت أقدام الكلاب أسرع من تتابع الرصاصات الطائشة التي أصابت بعض الإصابات وأردت البعض الآخر من الكلاب , كان إطلاق النار هو إشارة بدء الكلاب في الجري نحو العساكر بكل سرعتهم .. هرب العساكر , وهرب الظبّاط , وهرب اللواء , ثم بقى في ميدان طلعت حرب عدد 6 مدرعات غاز , و4 سيارات للترحيلات , و5 مدرعات مدرعة ( من كلاسيكيات الجيش ) , و10 بنادق غاز , و150 قنبلة غاز مسيل للدموع , و20 بندقيّة خرطوش , و35 سلاح آلي , و400 رصاصة خرطوش , و800 رصاصة حيّة , وكانت غنيمة اليوم الأول , وقد استُكملت المسيرة ( المسلحة ) إلى ميدان التحرير , يهتفوا ويغنّوا , ثم أطلقت النيران في الهواء للإحتفال , ثم تفرّقوا كلٌ مع كلبه , وفي يده سلاحه الأثير.
كانت هذه الجولة ضربة قاصمة على ظهر النظام الذي ظن أن لن تغلبه غلبة , وقد ظلّت وزارة الداخلية أيام في سهر مستمر , يجتمعون ويبحثون الحالة الجديدة , ثم يقترحون الحلول , والجميل , أن المنظمة كانت تتيح لهم تجربة الحلول على الأرض , لتُثبِت لهم فشلهم وخيبتهم أمام الجمهور , ففي كل مرّة كان يُعلن على الشاشة أن الخبراء الأمنيين والاستراتيجيين تمكنوا من إيجاد خطّة لعدم تكرار مأساة مايو , نزلت المنظمة السريّة للشارع لإثبات أن لا شئ سيمنع تكرار المأساة.
بعد المرّة الأولى , جربّت وزارة الداخلية تكثيف القوة و فتكها , ولكن في كل مرة كانت الكلاب تهزم كل الخطط وتُنسي العساكر كل توصيّات الوزارة بالثبات , فتخسر المنظمة القليل من الأفراد والكلاب , وتخسر الداخلية الكثير من الأسلحة والمركبات والذخيرة وحتى خوذ ودروع وعصي الأمن! كانت مهزلة! كانت الوزارة في عين الشعب كالخُرم الذي لا يُسد.
قرروا تغيير الخطّة , ومحاربة التقدم الثوري بالعِلم , فجائوا بأعداد ضخمة مماثلة من الكلاب , على أمل أحد الأمرين , فالكلاب إما ستهرع تجاه الثوريين فتفتك بهم وتُرهبهم بمثل ما يرهبوننا , أو ستهجم على الصف المقابل من الكلاب , فتتيح للقوات الفرصة لفشخ الثوريين المسلحين بأسلحتهم , ولكنّهم عادوا بخُفي حُنين , لم تستطع كلاب الداخلية التحمّس للثوريين الذين يبعدون عنهم كل تلك المسافة , وبالأخص لأن هذه الكلاب أمامهم , وبطبيعتهم , لم يكون الكلاب جاحدين لهذه الدرجة , لكي يفتكوا بأنفسهم من أجل بني البشر , فقط , ولمدة ساعة , ظل كلّ من الفريقين ينظر للآخر , الثوريون المسلحون إلى عساكر الأمن , والكلاب التي تحكُم إلى كلاب الداخلية.
ثم غيّروها مرّة أخرى , فأتوا بكميّات هائلة من اللحم , ووضعوها في الشارع أمامهم , حتى تنفتح لهم الفرصة فيحطّوا على الثوريين حطّاً شديداً , وخابوا مرةً أخرى ليست بأخيرة , فقد كانت المنظمة تُطعم الكلاب طعاماً كثيراً قبل العمليات الخطيرة , لئلا يدخلوا لها من هذا المدخل السهل.
لم يكن من الصعب على النظام التوقّع بأن تنزل المنظمة إلى الشارع في يوم 3 يوليو 2020 , ذكرى تأسيس منظمة " الكلام تحكُم - Dogs Control " .. تأهبت وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والمخابرات العامة والأمن الوطني وماسبيرو وكل الجهات التي تمثّل أعمدة النظام المنيعة , والتزموا أقصى درجات الاستعداد , وضعت القوات المسلحة عدداً من الأسود حول وزارة الدفاع , ووضعت وزارة الداخلية عدداً من الغوريلات أمام ماسبيرو , ثم انتبهت المنظمة للاستعدادات المُعلنة في وسائل الإعلام , واتصلت بكل أفرادها , دقّت ساعة الصفر , المجموعة (ش) في المكان 74 , المجموعة (ح) في المكان 1312 , ابدأ.
من الذي ينتصر : القوة أم العقل ؟
كانت منظمة " الكلاب تحكُم " السريّة المسلحة حريصة دائماً على ضم العلماء والمهندسين والأطباء البشريين والبيطريين , لضمان اليد الأعلى في كل حركة ضد النظام الذي يطلق يده قبل أن يفكر بعقله , وقد كان.
في تمام الساعة السادسة مساءاً وصلت المجموعة (ش) [شمس] إلى المكان 74 [وزارة الدفاع] , وفي الناحية الأخرى من المشهد , وصلت المجموعة (ح) [الحرية] إلى المكان 1312 [ماسبيرو].
أمام وزارة الدفاع , زأرت الأسود مع ظهور الثوريين وفي مقدمتهم الكلاب والأطباء المسلحين والمهندسين ذوي الخراطيم .. كانت هذه هي الإضافة غير المفهومة لدى قوّات الجيش أمام الوزارة , عندما بدا الشر في عيون الأسود , أطلق البيطريون الإشارة , كانت الخراطيم في يد المهندسين تنز أنهاراً من العسل أغرقت الأسود , وكانت الأسلحة في يد الأطباء تطلق الآلافات من النحل على أجسادها , وعندما تلاهت الأسود في العبث مع النحل المميت , اقتحم الثوريون وزارة الدفاع بالطريقة نفسها , ثم أخرج القائد اللاسلكي من جيبه وقال : " غنّي الحرية دي أجمل غنوة في الوجود , حوّل "
أمام ماسبيرو , صرخت الغوريلات مع رؤية جيوش الثوريين والكلاب , خافت قليلاً , ثم دبدبت على صدورها دبيباً صاخباً , وعندما همّت بالهجوم على الحشد , ظهر في وسط الناس المئات من الأطباء البيطيرين ذوي البلطو الأبيض , يُرفعون فوق الأعناق , ثم يرفعون قروداً وليدة فوق أذرعهم , تبكي وتضحك. وقفت الغوريلات في ذهول , وكادت تبكي , لولا أن أطلقت إليهم القرود الصغيرة , فحملتها إليها وظلّوا في لعبهم يتلهّون , واقتحم الثوريون ماسبيرو بالطريقة نفسها , ليلقوا على الجماهير البيان الكلابي رقم (1) بتاريخ 3 يوليو 2020 , وفي طريقه إلى الهواء , تذكّر قائد المجموعة الثانية شئ , وما أن أخرج اللاسلكي من جيبه حتى سمع الإشارة وقال : " شمس الحرية اتولدت ولا يمكن تموت , حول;) "
***
في 2 مايو 2017 , جلس عماد عبدالعظيم إلى شاشة اللاب توب الخاص به , يشاهد بعض اللقطات المصوّرة لأحداث العبّاسية على موقع YouTube , لم ينس عماد هذا اليوم في حياته , حتى لو نسى الشعب كله ونسى الثوريون , لم ينس هو , كان عماد هو الشابّ المسحول المضرج بالدماء الذي ظهرت صورته على مواقع التواصل الاجتماعي يوم 2 مايو 2012 , كان الضرب الذي تلقّاه عماد في هذا اليوم كافي ليُشعره بقية حياته بالوجع والمهانة , وفي مثل تلك اللحظات , كان محمد يستعيد الثورة في داخله بالأغاني الثورية التي كانت الميادين ترقُص وتغنّي بها أيام الثورة حتى أيام الرمق الأخير في 2015 , لم يعد هناك ميادين للغناء والهتاف , أغلق عماد باب غرفته من الداخل وأغلق كل النوافذ ورفع صوت السمّاعات الضخمة إلى آخره , واستمع إلى أغنية " شيد قصورك " للشيخ إمام , يُغنّي بعلو صوته , ويقفز على السرير بكل طاقته , ثم يعيدها المرة تلو الأخرى دون أن يفقد الطاقة والحماس :
" شاااااااييييييييد قصووووورك عالمزاااااااارع
ميييييين كادييينااااا وعامااااال ايدييييييييناااااا
والخامااااارااااات جاامب االماصااااااانيييييع
والسييييييييجن مطرااااااح الجينيييييييينااااااا
*يصرخ*
وااااااااطللييييييق كييييلااااااابااااااك في الشاااااواااااااااريييييع
وااااااقفييل زااااااانااااازييييينك عاااااالييييييين..."
*يصمت*
*يتوقّف عن الغناء والرقص كأنما تذكر شيئاً .. وما الشئ الذي لن ينتظر بقية الأغنية؟*
*يعيد الأغنية مرّة أخرى لكي يتأكد مما سمعه*
يُنشد الشيخ أمام وأحمد نجم :
" شيد قصورك عالمزارع
من كدنا وعمل إيدينا
شيد قصورك عالمزارع
من كدنا وعمل إيدينا
والخمّارات جنب المصانع
والسِجن مطرح الجنينة
والخمّارات جنب المصانع
والسِجن مطرح الجنينة
وإطلق كلابك في الشوارع
وإقفل زنازينك علينا
* يتحمس نجم*
" وااطلق كلااابك في الشوااارع~..."
ينبعث ضوء جديد من عيني عماد عبدالعظيم , ويهمس : والله فكرة.
*فانتازيا الثورة : الملحمة الخامسة*

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق