الأحد، 7 سبتمبر 2014

فانتازيا الثورة : الملحمة الثانية

وفي سنة من السنّين , ضاق الشباب بالأمر , لم يعودوا يجدوا ما يعبّرون به عن غضبهم , كُنت أتابعهم من بعيد , عقب إحدى المسيرات الحاشدة , المفاجأة , جاءت قوّات الشرطة , ارتبك الأمر , وعمّت الفوضى , كان التنظيم محكماً بحيث لا تنتظرنا الشُرطة كعادتها في مكان التجمع وميعاده بالتحديد , الشرطة ملتزمة بالمواعيد منذ قفز السيسي على وجه السلطة , لكننا سخرنا منهم في هذه المرّة , أرسلنا رسالات خفية لكل الثوريين في المدينة بأن يتجمّعوا في المكان x والزمان y , لم يكن من السلطة إلا أن تنتظر بالتأهب والإستعداد التام للحركة القادمة , التي ربما سنقوم بها بعد ساعات أو أيام , أو أسابيع , أو شهور , فن استنزاف العدو واللعب بأعصابه , وجاء الوقت , واجتمع الثوريون من أقصى المدينة إلى أدناها في الزمان والمكان الذي حفظناه عن ظهر قلب , وأحرقنا الأدلّة قبل أن يفكّوا الشيفرة , لامست أرواحنا السماء في هذا اليوم , شعرنا يومها بالحرية , الحرية في الهتاف والغناء والتعبير عن الرأي , بل الحرّية التي انتزعناها من يد السجّان الغبي , وفجأة , فجأة! هَجَمت علينا جحافل الأمن المركزي وقوّات التدخل السريع بآليّاتهم وأسلحتهم المخيفة , بدون سابق إنذار , لم يريدوا في هذا اليوم إرهابنا , كانوا يريدوننا نحن! حاصرونا في الميدان ! اعتقلوا في هذا اليوم 4,561 شاب وشابّة , واستطاعت البقية الهرب.

لم يكُن تفكير أي منّا في أي شئ غير الخائن الذي في صفوفنا , الخائن الذي دلّ علينا عند حُرّاس القيصر.

اختنق المجتمع , في كل جماعة من الشبّاب كنت تجد شابّاً أو أكثر من المعتقلين , كانت أشرس الحملات على الإطلاق , ظننا أن انتصارنا يكمن في وقوفنا معاً , واكتشفنا أن وقوفنا معاً هو الذي يُسهّل على العدو الفتك , وظننّا في أنفسنا الذكاء الشديد , فلامونا ونعتونا بالغباء المُستقر.

في المعتقلات , أشعل خمسة نشطاء معروفين الشرارة , أعلنوا إضرابهم عن الطعام لحين إسقاط قانون التظاهر والإفراج عن المعتقلين , في البداية تجاهلوا الأمر , وصمدوا , فَسَخَروا , وصمدوا , فهددوا , فصمدوا , فرغّبوا , فصمدوا , ففزعوا , فصمد الناس , وامتد الإضراب ليشمل مئات السجناء في معتقلات العسكر , استخفّت السُلطة السياسية بالأمر , وانتظروا شهر , شهرين , وتوصّلوا في النهاية إلى أن هؤلاء الضعفاء لن يغيّروا من الأمر شئ , وانصرفوا إلى دولتهم.

بعد أربعة أشهر من إضراب السجناء , مات 37 مضرباً عن الطعام بسبب سوء حالته الصحّية , وعَلِم الناس في الشوارع , والمتحدثين على الشاشات , وارتسمت في الأفق نبرة الغضب والاستياء مما يحدث لهؤلاء " الغلابة المغلوبين " , لم يكن هذا ليؤثر في صلابة النظام , ولكن الذي أثّر , الرسائل الدولية التي عبرت القارات إلى مصر واصطدمت في رأس القيادة الحاكمة , أدانت الحادثة منظمة حقوق الإنسان الدولية ومنظمة العفو الدولية ومنظمة الصحّة العالمية وحمّلت النظام المصري عاقبة الأمر , وصدرت بيانات من الأمم المتحدة والخارجية الأمريكية تطالب النظام المصري بتلبية مطالب المضربين وتلمح له بتخفيف وطأة القمع الأمني " الملحوظ " , وبيانات أخرى من بريطانيا وفرنسا وتركيا وألمانيا ودول أخرى.

اضطر النظام المصري للتنازل لتخفيف " الجو " العالمي والداخلي , وأعلن عن استعداده للاجتماع مع الحركات الثورية والوصول إلى حل للأزمة يتضمن الإفراج عن جميع المعتقلين.

كان في البلاد آنذاك تيّاران مسيطران نسبياً على حركة الشباب في الشارع , وهم : الثوريّون المحافظون , والثوريّون الجدد , وكانوا يناضلون معاً ضد النظام بلا فرق أبداً. عندما أعلن النظام استعداده للاتفّاق , أعلنت حركة الثوريّون الجدد موافقتها على الاجتماع مع القيادة للاتفاق على حل من شأنه إخراج كافّة المعتقلين في سجون العسكر , بينما أعلنت حركة الثوريون المحافظون أنها لم , ولن تضع يدها في يد النظام السفّاح , ولن تساوم على أي حق.

في مؤتمر صحفي عالمي , وقف وزير الداخلية المصرية محمد ابراهيم وإلى جانبه مصطفى المصري قائد حركة الثوريين الجدد , وأعلن :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , تعلن وزارة الداخلية المصرية عن توقيع الاتفاق مع الحركات الثورية المصرية بشأن المعتقلين السياسيين ,
والذي جاءت بنوده على النحو التالي :

1- الإفراج عن كافّة المعتقلين المضبوطين في أحداث سياسية أو أحداث شغب.
2- تُمنَع كافّة أنواع التظاهر , أو الإعتراض , أو التحريض على النظام بطريق مباشر , أو غير مباشر , لمدّة عام من تاريخُه , ومَن يؤتي الأفعال السابق ذكرها في هذا العام , هيطلع دين أمه.
بسم الله الرحمن الرحيم : { وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } , صدق الله العظيم.

بعدها بإسبوع , انتهت جميع الإجراءات , وخرج المعتقلون في احتفال شعبي حقيقي , أقيم خارج السجون التي خرجت منها جموع المحبوسين , فَرِح الناس , وتقرر التزام اتفّاق الصمت , وانتهى الأمر.

بعدها بشهر , نشب خلاف بين ضابط شُرطة وبائع للخُضار في منطقة العتبة , أدّي إلى مقتل بائع الخُضار برصاصة في صدره , على مرأي ومسمع من الناس , على سبيل الخطأ - كما أعلنت وزارة الداخلية سلفاً.

بعدها بيوم , نزل آلاف الثوريون المحافظون إلى الشارع , يطلبون القصاص لبائع الخضار , ويهتفون ضد النظام القائم , في لمح البصر , احتشد الآلاف من الثوريون الجدد , ينادون بإنهاء الفاعلية , صعد مصطفى المصري فوق الأكتاف ومسك مكبّر الصوت وقال : " احنااا اتفقنااا يا جدعااان , مينفعش نرجع في اتفاقنااا , لو سمحتوا ارجعواا دلوقتيي , احنا هنا عشان بنحبكم مش عشان نعاديكم , احنا عدونا واحد بس احنا خايفيين علييكم دلووقتي ! من ضمن اتفاق المعتقلين ان اللي هيعترض هيطلع دين أمووو ! "
لم تسمع لهم جموع الثوريين المحافظين , بل استمرّت في التقدم , حتى بدا الأمر جلياً من الناحية الأخرى من المشهد : جموع مماثلة تماماً , متّشحة بالسواد , مدججة بالأسلحة , مشتاقة للعراك.

هُنا المشهد : شارع قصير , في أوله الثوريون المحافظون ينظرون إلى آخره ويتقدّمون , وفي آخره عساكر وضُبّاط الأمن المركزي ينظرون إلى أوله ويتأهبون , وفي منتصفه الثوريون الجدد ينظرون إلى أوله ويخافون. يتقدم المحافظون , يتقهقر الجدد , يتقدم المحافظون متحمّسين , يتقهقر الجدد قائلين " ارجعووو , احنا بنحبكووو وخايفين عليكووو , أرجووكم ارجعوا دلوقتي متخسروناش أكتر من كدااا " , بعدها بثواني , تلاشت المسافات , تماسّت الجموع , الشرطة إلى اليمين , والمحافظون إلى اليسار , والجدد في المنتصف.

- ارجعوا , لو مشينا من هنا هتتدبحوا
= مش هنرجع , احنا نازلين نعبّر عن رأينا ومحدش هيمنعنا
_ *العسكري ينظُر إليه باستغراب*
- متخلوهمش يشمتوا فينا
= قصدك ايه ؟
_ *العسكري يُعمّر سلاحه*

المشهد التالي : الثوريون الجدد يدفعون الثوريين المحافظين في عكس اتجاه الشرطة , مما يؤدي إلى التحامات في الخط الفاصل بين الجمعين , تتطور إلى التحام كبير بين الحشدين , إلى معركة حقيقية , إلى إصابات , إلى قتلى في الطرفين !

قوّات الشرطة تترك الساحة محتدمة ودامية , وقد جاء الأمر بالإنسحاب , وفي غمرة ابتعاد حشود الأمن المركزي عن ساحة المعركة , ينظُر العسكري إلى الخلف نظرة سريعة , مُختَلَسة .. ويبتسِم.

*فانتازيا الثورة : الملحمة الثانية*

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق