في حربنا التي نخوضها طوعاً انتصاراً لمبادئنا، إذا كان المنطق والمبدأ يسيران في خطان متعاكسان تماماً، هل نحارب؟
في فيلم "300" نجد القائد ومعه الـ300 شجاعا، يدافعون عن إسبرطة، مدينتهم الفاضلة، بعيداً في الصحراء، حين يلقون كل أنواع الشرور والمتاعب، وحدهم. يلتقون كل أنواع الجيوش القادمة من الشمال، ويمرون فوق جثث جميع من أقسموا على كسرهم، غير آبهين بالجيش الذي يسد الأفق بعيداً، القادم لهم من تحت ملك الفرس، الذي جاء ليكسر اليونان، ممثلة في جيش إسبرطة الصغير الذي لم تقهره معاركه، بنفسه هذه المرة.
يقف رسول الملك الإله الفارسي، طالباً من القائد الإسبرطي التحرر من خوذته ومن درعه ومن رمحه، والسجود تبجيلاً لملك الفرس الملك الوحيد على هذه الأرض. الذي يستطيع أن يسحقه الآن إذا أراد، إلا أنه سوف يسامحه، ويجعله أميراً عن اليونان جميعاً، ويوفر له كل السلطة والمال الذي يريد، طالما أنه سيخضع للملك الفارسي. الفارسي الذي كان يطمع فيما أبعد من قتل القائد العنيد وجيشه، وهو كسر كبرياؤه الذي أعياه في معارك دامت لشهور بين الجبال والصحاري.
نص المشهد الأخير من معركة ثرموبيلي كما وردت في فيلم 300 :
- الرسول: ليونايدس، مديحي لك، مبروك عليك، لقد صنعت من النكبة انتصاراً. بالرغم من وقاحتك.. الإله الملك معجب بشجاعة الإسبرطيين ومهارتهم القتالية. ستكون حليفاً قوياً.
- افيالتيس - الخائن الذي دل الفرس على موقع الإسبرطيون - : استسلم يا ليونايدس. كن عقلاني من أجل رجالك. أتوسل إليك.
- الرسول: استمع لزميلك اليوناني. يمكنه أن يؤكد لك مدى كرم الإله الملك. بالرغم من إهانتك وكفرانك، الإله مستعد أن يسامحك ويكافئ خدمتك. تحارب من أجل بلادك.. احتفظ بها. تحارب من أجل إسبرطة.. ستصبح أغني وأقوى من أي وقت. تحارب من أجل مَلَكيَّتك.. ستكون حاكماً على كل اليونان، تحت إمرة السيد الحقيقي للعالم. ليونايدس، انتصارك سيكتمل. فقط، سلم أسلحتك، واركع للمقدس زيركسيس.
- صوت الراوي: مر أكثر من ثلاثين عاما منذ حادثة الذئب والبرد القارص، والحال كما هو. ليس الخوف ما يسيطر عليه، بل إدراكه المتفوق بما يدور حوله. نسيم البحر يقبل صدره ورقبته يرطب عرقه. النوارس تنعق، تشتكي رغم آلاف الجثث العائمة البحر. النفس الثابت للثلاثمائة من خلفه.. مستعدون للموت دون لحظة تردد. كل واحد منهم مستعد للموت.
خوذته ضيقة..
درعه ثقيل..
*يلقي ليونايدس خوذته ثم درعه*
- الرسول: رمحك.
- ليونايدس - مشيراً برمحه إلى الخائن - : أنت هناك.. افيالتيس، فلتعيش للأبد.
- ليونايدس، رمحك.
*يهم ليونايدس بالركوع لينهض زيركسيس رافعا رأسه فاتحا ذراعيه مستشعرا عظمته مستعدا للتمجيد بلا أي تحدي لسلطته*
- ليونايدس - صارخا - : ستيليوس!
*يخرج ستيليوس من القبة المدرعة ليطعن الرسول برمحه، فيفاجأ الفارسي ويتأهب الجيش*
- زيركسيس - صارخا - : اذبحوهم!
*ينهال الجيش ليقضي على الثلاثمئة بينما يحمل ليونايدس رمحه ويوجهه*
- صوت الراوي: خوذته كانت ضيقة، تقصر من رؤيته.. يجب أن يرى بعيداً. درعه كان ثقيلاً، يخل من توازنه.. هدفه بعيد جداً.
*يتحرك السهم ليتهادى ظله فوق سلم العرش والملك الفارسي يراقبه مذهولاً ليجرح جانب وجهه الأيمن ويستقر مخترقا العرش بينما ظل محدقا في الرجل الذي تحدى سلطته، واقترب من أن ينهي حياته*
*يموت الرجال ولكل منهم عدد لا بأس به من القتلة، وهم في موتهم ذلك لا يكفوا عن قتل قاتليهم، عن الانتصار لدمائهم ولما ماتوا من أجله، لعدم الاستسلام حتى النَفَس الأخير*
- صوت الراوي: القدماء يقولون أن الإسبرطيون انحدروا من نسل هرقل نفسه. شجاعة ليونايدس شهادة على ذلك. زئيره طويلاً وعالياً.
*يزأر ليونايدس أمام الملك الذي فزع لجرح وجهه وقصد لإخفائه بيده لئلا تتآكل صورته. يلفظ الجنود باقي أنفاسهم قرب النهاية ويقترب ستيليوس من ليونايدس*
ستيليوس: ملكي، شرف لي أن أموت بجانبك.
ليونايدس: شرف لي أنني عشت بجانبك.
*يغالب ليونايدس الألم لينهض مجدداً ويقف مستقبلاً آلاف الأسهم فاتحاً ذراعيه*
ليونايدس: ملكتي.. زوجتي.. حبيبتي.
***
في حربنا التي نخوضها طوعاً انتصاراً لمبادئنا، إذا كان كل من المنطق والمبدأ يسيران في خطان متعاكسان تماماً، هل نحارب؟ هذا هو السؤال الذي سيطرق رأسك مباشرة بينما تشاهد هذا المشهد. المشهد الذي يجعلك - بكل عناصره ومؤثراته - متعاطفاً تماماً مع البطل، متماهياً معه، متسائلاً ماذا لو كنت مكانه، في هذا الموقف بالذات، ماذا كنت لتختار؟ المبدأ الذي حاربت من أجله؟ الذي مات من ورائك مئات الشباب من أجله؟ ومن أجلك أنت الذي قدتهم لكل هذا الغمار؟ أن تموت وأنت لا تشك في ضميرك وفي حريتك وأخلاقك وعهدك أمام نفسك وأمام الناس - الميتين والأحياء؟ أم حياتك وحياة 300 صديق من ورائك، اتبعوك إلى هنا لأنهم صدقوا فيك، حياتك وحياتهم التي ستأتي من بعد كسر أنف الكبرياء الإسبرطي وخز عين الحرية اليونانية وكتم صوت كل ثرثرات الهتافات والمعاني؟
أيهما سيكون أدعى بالاختيار حينها؟ موت بثقة في شرف المصير وراحة الضمير؟ موت دفاع لن يسميها أحدهم قبل موته هزيمة؟ أم حياة استسلام ومهادنة؟ وهل كان على القائد أن يسمع لكل الأصوات التي نادت برجوعه عن هزيمته المؤكدة؟ بدءاً من رفاقه السباقين الذين لم يرتضوا انقلاب ميزان الواقع المفزع فوق رؤوسهم، إلى آخر يوناني خائن، وفارسي مغرور، دعاه لأن يعيد النظر إلى فرصة جديدة للحياة. هل كان يمكنه التفكير للحظة في المراوغة؟ وهل لم يأت ذلك في باله حقا؟ وإذا كان سيسلم رأسه وسلاحه للفرس فكيف يضمن ألّن يذلوه كما أرادوا له ولبلاده الذل والشين في عشرات المعارك؟ وهل لو صدقوا وعودهم بالسلطة والإمارة سيسطيع أن ينقلب على الفارسي في لحظة قوة وتدبير؟
في لحظة واحدة، كان على قائد الجيش الإسبرطي، ومن ورائه اليونان تنعم بحريتها ومدينتها السياسية، أن يقرر ماذا يختار، موت يحفظ حياته وحياة رفاقه صفحة بيضاء خالدة في تاريخ اليونان، مدافعين عن بلاد تأبى إلا أن تموت مرفوعة الرأس؟ أم حياة جديدة، لا تشبه سابقتها، كسيئة تمحي حسنات المعارك؟ سيئة التسليم من بعد كل هذا السجال، وكهدر لكل قطرة دم سالت من أجل قائد أخرج مفتاح مدينته من جيبه وأعطاه لهمجي يظن نفسه إلها ويريد جميع الناس عبيداً يركعون تحت قدمه، طلباً للعيش. فهل كانوا ليسامحوه. أم أنه لم يكن بداً من اعتباره ذكرى، من قبل حتى أن يُقتل، لأنه حتى إن عاد فلن يعود ملكهم الحر، سيكون مملوكهم على العبيد، وسيحيل إسبرطة ولاية فارسية مكبلة، ليس لها فكاك.
يتحدث برتراند راسل عن الإسبرطيين في تاريخ الفلسفة الغربية فيقول :
ولسنا ننكر أن الإسبرطيين قد نجحوا أمدا طويلا في غرضهم الرئيسي، وهو خلق فصيلة من المحاربين لا تجوز عليهم هزيمة في قتال؛ ولعل معركة "ثرموبيلي" (480 ق.م) أن تكون خير مثل لشجاعتهم على الرغم من أنها هزيمة من الوجهة الفنية؛ فثرموبيلي ممر ضيق بين الجبال، أريد لجيش الفرس أن يتجمع فيه؛ فصد ثلاثمائة إسبرطي مع توابعهم كل الهجمات الأمامية؛ وأخيراً كشف الفرس عن طريق أطول يمتد خلال التلال، ونجحوا في مهاجمة اليونان من الجانبين معاً؛ فقتل كل إسبرطي وهو في مكانه، إلا رجلين كانا غائبين في إجازة مرضية، لأنهما يشكوان من علة أعينهما تكاد تبلغ بهم حد العمى؛ فأصر أحدهما أن يحمله مملوكه إلى ميدان القتال، حيث لقى حتفه؛ أما الآخر - وهو أرستوديموس - فقد قرر أنه أضعف بالمرض من أن يقاتل، ولم يعد إلى القتال؛ فلما عاد إلى إسبرطة، لم يتحدث إليه إنسان، وأطلقوا عليه "أرستوديموس الجبان" لكنه بعد عام واحد، محا عن نفسه هذا العار بموته باسلاً في موقعة "بلاتي" التي انتصر فيها الإسبرطيون.
وبعد الحرب أقام الإسبرطيون نصباً تذكارياً في مكان القتال في ثرموبيلي كتبوا عليه: "أيها القادم الغريب، أنبئ أهل "لاكيديمون" أننا نرقد هاهنا طاعة لأوامرهم".
***
الموت أم الحياة؟ هل واتتنا لحظات كتلك؟ لحظات كان علينا أن نختار فيها حياتنا وموتنا؟ فمنا من اختار قضيته وموته، ومنا من اختار مهادنته وحياته؟ هل علينا أن نفضل بين من اختاروا المبدأ لآخر لحظة، وبين من اختاروا المنطق لآخر لحظة؟ أم علينا احترام كل اختيار لصاحبه، وأن نسأل أنفسنا نحن، إن كان اختيارنا سهلاً، ولماذا، وماذا فعلنا قبله، وماذا نفعل بعده؟
سأحمل روحي على راحتي .. وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدا
قائل هذه الأبيات هو الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم محمود، وذلك قبل استشهاده بقرابة عشر سنوات، في معركة الشجرة عام 1948. استهل بها قصيدته "الشهيد". وإذ ترك المحاربون الإسبرطيون رسالتهم على الأرض التي ماتوا فيها طائعين، واقفين، فكيف ترك الشهيد الفلسطيني رسالته؟
سأحمل روحي على راحتي .. وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق .. وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان .. ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن .. مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون .. ودوّى مقالي بين الورى
لعمرك إنّي أرى مصرعي .. ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مصرعي دون حقّي السليب .. ودون بلادي هو المبتغى
يلذّ لأذني سماع الصليل .. ويبهجُ نفسي مسيل الدما
وجسمٌ تجدّل في الصحصحان .. تناوشُهُ جارحاتُ الفلا
فمنه نصيبٌ لأسد السماء .. ومنه نصيبٌ لأسد الشّرى
كسا دمه الأرض بالأرجوان .. وأثقل بالعطر ريح الصّبا
وعفّر منه بهيّ الجبين .. ولكن عُفاراً يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسامٌ .. معانيه هزءٌ بهذي الدّنا
ونام ليحلم َ حلم الخلود .. ويهنأُ فيه بأحلى الرؤى
لعمرك هذا مماتُ الرجال .. ومن رام موتاً شريفاً فذا
فكيف اصطباري لكيد الحقود .. وكيف احتمالي لسوم الأذى
أخوفاً وعندي تهونُ الحياة .. وذُلاّ وإنّي لربّ الإبا
بقلبي سأرمي وجوه العداة .. فقلبي حديدٌ وناري لظى
وأحمي حياضي بحدّ الحسام .. فيعلم قومي أنّي الفتى.
وربما كانت هذه المقارنة الضمنية خارج صلب الموضوع، إلا أنني لم أجد بداً من الخضوع لهذا الشعور الذي جعلني أرى معركة الشجرة عام 1948 م ومعركة ممر ثرموبيلي عام 480 ق.م كانعاكسين لضوء واحد. وأقرأهما كنصّين لرسالة واحدة.